(مهداة لمن وصفهم الكواكبى بمصطلح بقر الجنة)
يدرك العديد من المهتمين بشؤون الفكر والثقافة مدى حجم الجدل الدائر حول مصطلح المثقف، ومدى حجم الاختلاف المعرفي الدائر حول مؤشراته ومعاييره المتباينة، فالمصطلح في الأساس ولد من رحم أدبيات العلوم الإنسانية المعروفة كما نعلم بصعوبة اتفاق باحثي حقولها حول تعريف جامع مانع للعديد من مصطلحاتها، وإن كنا هنا طبعاً نأخذ في الاعتبار الحيثيات المنهاجية لمحورية التعريف الإجرائي التي لن يكون السبر التحليلي في ماهيتها موضوع هذه المقالة التي سنحاول من خلال سطورها تسليط الضوء على جانب من تجليات حرب يقودها بعض من أشباه المبدعين، ضد العناصر المتميزة في مجالها الإبداعي، وتحديداً في مشهدياتنا الثقافية العربية، التي تعاني من تنامي ظاهرة مُدمرة يقف وراءها ثلة يفضل البعض وصفهم بالمتثاقفين، وذلك نظراً لأن مضمون سلوكياتهم وتصرفاتهم المرضية تنم عن انفرادهم بحالة لا إتزان نفسي تستحق أن نقف عند مختلف تجلياتها وتداعياتها السلبية الخطيرة على نسيج مشهدياتنا الثقافية العربية. فمكمن خطورة العناصر المتثاقفة يتمثل في إقدامها على تدمير البنية التحتية لتلك المشهديات وذلك من خلال آليات صراعية تقف خلفها خصائص وسمات سيكيولوجية شاذة، هي في الواقع بمثابة الرافد الرئيس لتلك الآليات التي نرصد باقتضاب أهم تقنياتها في النقاط التالية:ـ
أولا ً ـ آلية إقصاء المبدع ومحاولة تهميش مشروعه الثقافي من خلال سد كافة المنافذ التي تمكنه من التعبير عن ذلك المشروع ومن تواصله المباشر مع المتلقي، خاصةً إذا شعر المتثاقفون بأن قدرات ذلك المبدع قد تشكل خطراً على الغنيمة المعنوية والمادية التي يتحصلون عليها، عبر اصطناع وهم التمييز الإبداعي في أي مجال من مجالات الإبداع الثقافي، فالمتثاقف الذي يحاول بقدر الإمكان أن يحاكي بأسلوب مرثي العنصر الانتلجنسي المتميز إبداعياً، يقوم بدايةً بالكذب على نفسه وإيهامها بالتميز الإبداعي، ثم يحاول في خطوة لاحقة فرض وهم تميزه على أفراد الوسط الثقافي والاجتماعي المحيط به، وهو وسط عادةً ما يقدم أفراده تحت تأثير عامل المجاملة أو التزلف أو الجهل بمعايير تقييم النص الإبداعي، بالإثناء عليه بل وببذل قصارى جهدهم من أجل فرض ذلك النص الهلامي على من يُشهد لهم بالجدارة والكفاءة الثقافية.
ثانيا: يجد المتثاقف فرصته السانحة عندما تبدأ بعض من عناصر الإنتلجنسيا بالتعبير عن وطأة الظلم والقهر الذي يمارس ضدها، وعن امتعاضها من سيطرة الشريحة المتثاقفة على فعاليات المشهد الثقافي، فيقوم المتثاقف باللجوء لأسلوب تدبير المكائد والدسائس تجاه كل من يُبدي ازدرائه وامتعاضه من الأوضاع الثقافية السائدة، فيعمل مثلاً على توظيف نفوذه الإداري أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي من أجل سحق وإقصاء كل من لا يعترف بقيمته الثقافية الزائفة والمصطنعة.
ثالثاً: للمتثاقف سلوكيات متكلسة وهامشية غريبة فهو حريص دائماً على التأويل قبل القراءة الناضجة والمثمرة، وعلى أن يقتات من فتات الاستخلاصات النظرية التي تنجم عن حواراته أو استفساراته الثأطاء من العناصر المتميزة إبداعياً في مجالها الثقافي، والتي لا يتردد ذلك المتثاقف في سرقة جهدها المعرفي ونسبه إلى نفسه بل أن ذروة تلك السرقة تتجسد في إدعاء المتثاقف بأنه قد بذل جهده الجاهد من أجل البحث عن تلك الاستخلاصات والوصول لنتائجها، وعندما يحاول أحدهم بأن يصارحه بتلك السرقة تثور ثائرته ويحاول تحت حجج واهية مثل المؤامرة أو الغيرة من نجاحه أو النسيان أو الخطأ المطبعي تبرير سرقاته.
رابعاً: لا يتوقف المتثاقف عند حد تفخيخ المنافذ التي تمكن الآخر المتميز من الإنطلاق والحضور الفاعل في المشهد الثقافي، بل إنه يحرص على الاستثمار الأمثل لوظيفة التشويه التي يتم من خلالها تشويه سمعة الآخر الإنتلجنسي من خلال اختلاق وقائع لا وجود لها إلا في مخيلته المريضة، ومن خلال استغلال ثقة ذلك الآخر في نفسه وعدم مبالاته بمكائد واتهامات أمثاله من المتثاقفين، وإيمانه بالمبدأ العقلاني الخلاق الذي عبر عنه المتنبى بالقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ .. فهي الشهادة لي بأني كاملُ
خامساً: عقدة الإسقاط هي سمة مميزة لنص أو ملفوظ المتثاقف، فالمتثاقف شخصية مريضة تحرص كل الحرص على إتهام غيرها أو وصفها بمصطلحات لا تنطبق عملياً وواقعياً إلا على أمثاله من المتثاقفين، خاصةً إذا تعززت الفرضية الآنفة بالتقارير الكيدية والغرضية التي كتبها المتثاقف ضد زملاءه في مرحلة ما، أو بالوثائق التي تثبت نفاقه وتلونه السياسي والثقافي، وانتهاكه لحقوق غيره من الآدميين تحت مبرر الدفاع عن الوطن، الذي يحاول الآن ذلك المتثاقف الرقص على جثث بؤسائه، من خلال ركوب موجة الدعوة للإصلاح، أو الترويج لأكذوبة انتهاك حقوقه وتظلمه “بطولات مجانية على رأي محمد أركون”.
سادساً: تنوع نمط الحرب التي يشنها المتثاقف ما بين نمط الحرب الساخنة التي تعتمد على الآليات الآنفة وغيرها. وما بينها نمط الحرب الباردة التي تعتمد على تقنيات استفزاز الآخر الإنتلجنسي ذهنياً وتفكيرياً ونصياً. كما إن استراتيجية المواجهة في تلك الحرب تبدأ باستجلاء خصائص ثقافة المعاكسة وتمر باستدراج الآخر إلى مستنقع العنف الثقافي، وتنتهي باستخدام العنف المادي ضد ذلك الآخر (الضرب أو محاولة الاعتداء مثلاً).
ختــامـــــــاً: فإن هذه المقالة ليست في الواقع إلا مجرد إيماءه عابرة على ظاهرة المتثاقفين الذين ابتليت بهم مشهدياتنا الثقافية العربية، وهم عموماً ليسوا إلا انعكاسا للمشهد السياسي المزري الذي تمر به المنطقة العربية.