المقالة

أبوشويشة آخر الموريسكيين أول الليبيين!!!

(نص متخيل لعصفور من الجنة )..

الكاتب زكريا العنقودي، صحبة الكاتب الكبير رضوان أبوشزيشة
الكاتب زكريا العنقودي، صحبة الكاتب الكبير رضوان أبوشزيشة

 كان (رضوان بوشويشة) آخر من غادر الأندلس من حاضرة أهلها ونخبتها. غادرها قهراً بعد أن ضاع مفتاح بقائه فيها في أزقة الحرب.. ودهاليز محاكم التفتيش وبعد أن انقطعت آخر شعرة تربطه بها كان قد احتفظ بها طويلا بين أصابعه النازفة.

غادر غرناطة ولم يجلب معه سوى مخطوطاته، وما تبقى من المحرقة من أوراق بن رشد وابن عربي ومراسلات ابن زيدون لولادة وكل حكايات وأشعار المعتمد بن عباد، وكل ما قدر عليه من ميراث حاضرة كانت تنير كل العالم معرفة.

أما بقلبه فأتي بكل نبض الأندلسيين ومراثيهم الخالدة، في فقد قمة حضارتهم غادر وهو يحمل بصدره كل اشعارهم ومراثيهم.. غادر وهو يردد دامعا ما قاله صديقه ونديمه لسان الدين الخطيب ومرثيته.

والَّذي أجرى دُموعي عِندما – عِندما أعرَضتَ مِن غَيرِ سَبَب

ضَع على صَدريَ يُمناكَ فَما – أجدَرَ الماءَ بإطفاءِ اللَهَب

يا أُهَيلَ الحَيِّ مِن وادي الغَضا – و بِقَلبي مَسكَنٌ أنتُم بِهِ

ضاقَ عَن وَجدي بِكُم رَحبُ الفَضا – لا أُبالي شَرقَهُ مِن غَربِهِ

أحوَرُ المُقلَةِ مَعسولُ اللمى – جالَ في النَّفسِ مَجالَ النَفَسِ

سَدَّد السَهمَ فأصمى إذ رَمى – بِفؤادي نَبلَةَ المُفتِرِسِ

جادَكَ الغَيثُ إذا الغَيثُ هَمى – يا زَمانَ الوصلِ بالأندَلُسِ

وعن خروجه من غرناطة قيل إن (القشتاليين) لم يتركوا منفذا ليمر منه ولو ناجي وحيد ..

ها هنا تدخل التاريخ لصالحنا فكان من حظنا أن يكون رضوان ذلك الناجي الوحيد.. ردد بعض من عملوا معه من أسرى على سفن القراصنة لاحقا قوله (إنه حين خروجه اتبع مسلكا بداخل نفق طويل كان يلوح بأخره وميض نور وأضافوا أنه كان يردد عن ذاك الوميض قوله كان قويا يبهر الأبصار ويشير دائما باتجاهي من البعيد) ثبت لاحقا إنها طرابلس ومنارتها من كانت تشير اليه من ذاك البعد السحيق.

خرج رضوان نازحا غصبا من حاضرت، وسرعان ما وقع أسير القراصنة، فجاب العالم معهم شغيلا بالسخرة شاركهم حروبهم ومغامراتهم، أدى هذا وبعد كل واقعة بحرية كان يخوضونها أن يقع أسيرا لطرف اخر من قراصنة المتوسط، وكان أن ترسو سفينته الناجية كل مرة على شاطئ آخر، فزار مدن العالم وسواحله وتعلم اللغات وزاد غوصا بمحيط العلم والتاريخ، والاهم من كل هذا إنه رغم سلسلة العذابات والتي قليلا ما فارقت أداتها الحديدية (كان الأسرى بذاك الزمن يقيدون من اقدامهم بسلاسل من حديد) قدميه إنه كل يوم مرّ عليه بمحنته وهو يخوض غمار الحروب ويجاور العبيد ويسحب المجاديف كان يزداد حبا في الحياة وولعا بالطبيعة وانجذابا لسر الخلق.. وصار أكثر إيمانا إن الله لم يخلق الانسان لمجرد العبث فالإنسان وحده حقيقة الوجود وغايته وسره ومنتهاه.

طويل الوقت الذي قضاه (رضوان) أسيرا بين أيادي قراصنة المتوسط رفع لهم الأشرعة وجدف لهم ضد العاتيات من موجاته، حتى شاء حظنا مرة اخرى أن تتحطم آخر سفينة عمل على سطحها على صلابة صخور طرابلس، وكان هنا أيضا الناجي الوحيد. لهذه اللحظة كان التاريخ يمضي قدما باتجاهنا.. كان رضوان نحيل العود حينها وبالكاد يتمالك نفسه واقفا، بالمقابل كان يقوده نبضه الضعيف وعيونا ناظرة للأفق ومسلما للرحمن قياده..

وصل بو شويشة لطرابلس.. وصل للمدينة التي لم يختارها لكن التاريخ اختاره ليكون قدرها وليكمل ما بدأه المدونون الكبار للتاريخ (هيردوت وأفلاطون) والذين كتبوا عن أول أمجادها وتاريخها.. وليكمل هو أيضا ما شرع فيه من تدوين ذاكرة الاندلس حين أجبر على مغادرتها..

من فوره ولازال الدم بمعصم قدميه شرع فيما قرر أن يسخر له ما تبقى من عمره وكل حياته فسحب قلمه المفضل والأخير لديه والتي اشتم عطره قبل أن يغطسه في محبرته وكيف لا وهو الذي صنعه بنفسه من اخر خيزرانة لامسها بيديه وهو ينسحب من بين حدائق قصر الحمراء بغرناطة

(نعم صاغ رضوان تاريخ ليبيا بخيزرانة من عطر غرناطة)

شرع رضوان في استكمال ما شرع فيه مع فارق التوقيت واختلاف المكان والزمان.. نعم اختاره التاريخ ليكون لطرابلس قدرها واختاره ليكون الشاهد والراوي والكاتب والرسام لكل ما شكل ذاكرة هذه المدينة وشكل ملامحها في كل ايامها التاليات

لكل هذا كانت (طرابلس) لرضوان (غرناطة) جديدة فحنينه للحواضر لوحده بحر محيط.. لذا احتاج للكثير مما اكتسبه من تجواله للعالم كمغامر واسير احتاج لكل ما اكتسبه من معرفة بل إنه احتاج حتى للذوعة طعم الملح بحنجرته وهو ينجو كذا مرة من الغرق، واحتاج لكل الالم الذي سببته القيود لقدميه، احتاج حتى لمجاديفه المكسورة وما خاطه من اشرعة ممزقة، احتاج لكل الحبر المتوفر واستجلب غير المتوفر.. أما ما نقصه من الوان فصنعه بنفسه من وصفة اكتشفها صدفة وهو يصنع لأميراً غرناطيا اكسير للحياة.

رضوان قاده بحثه عن غرناطة (عشيقته المفقودة) للرحيل كثيرا لذا حين وصل لجبال اكاكوس  وتاسيلي وقرأ نصوصا نقشها الاسلاف على حجارة تلك الجبال النائيات، أيقن أن غرناطة كانت هنا قديما ولم تكن ببلاد الاسبان وشبه جزيرة ايبيريا فقط لكنه كان صعبا عليه ان يرفعها حجراً حجراً من جديد ويبني بها طرابلس كما تخيلها كغرناطة الجديدة .. فلم يتوقف عند هذا المستحيل.

رضوان كانت تنقذه بديهته وحكمته دائما لذا لطالما كان الناجي الوحيد فقرر خطته البديلة فرفع لنا طرابلس كما يشتهيها لنفسه ولنا فشيدها قصصا ونثرا وشعر ومسرحيات ، بل و رفعها امامنا جداريات ولوحات خالدات …

لم تكن له القدرة ولا الامكانيات ليشيدها لنا كمدينة متكاملة الاركان، فالوقت لم يسمح له حتى بالقليل من الراحة كي يفكر ببداية جديدة أو ليختار خيار اخر حتى هذه المرة.. فالحرب زارته من جديد بطرابلس سلامه واحلامه بعد 2011.

ثم إن العمر والمرض لم يعطياه الفرصة ليكمل مدونة احلامه وخارطة بنيانه.. مع ذلك استمر مثابرا لم يعجزه المرض ولم يجعل الحرب تجعله يخسر او يذعن للنزوح مرة اخرى.. لكنه الوهن والعمر والارهاق وايضا ما لم يعرفه الجميع ان رضوان الذي لم يخسر بحياته معركة كان يخفي على الجميع أن جرح غرناطة ظل المه النازف وخسارته الوحيدة.

استمر مرض رضوان عقدا بعد ذلك مع ذلك لم يترك طرابلس للهوان.. وقف في وجه الحرب فرسمها بأجمل الالوان.. وكتبها قصصا وحكايات جميلة كما غرناطة وبألوان طيف كما الاحلام

 نعم نجح رضوان فيما رسمه وكتبه لنا عن هذه البلاد ليقدمها لنا كما احببناها وكما نتمناها وليس كما نراها جهارا عيانا وهي تغرق في جحيم يومياتها الان

نعم كان رضوان اخر حامل لمفاتيح غرناطة لكنه لطرابلس كان من رفع قوس قزحها وحامل مفاتيح مستقبلها واحلام اطفالها.

غادرنا الكاتب رضوان أبوشويشة بعد عام ونصف من كتابة هذه السطور وفي 21 نوفمبر 2021.. ليغادر ابعد حتى من غرناطة هذه المرة فقد حلق بعيدا كعصفور من الجنة وفي رحلة ابدية صوب سدرة المنتهى …

(لك رحمة الله ورضوانه مقربا منه ومحلقا بسدرة منتهاه يامن علمتنا ان طرابلس ذرة العالم وجوهرة التاريخ)

مايو 2019

مقالات ذات علاقة

عقيدة بني معروف ـ الوجه والقفا

عادل بشير الصاري

في مسألة اللغة والنص والمؤلف

نورالدين سعيد

قلبك دقيقة لو سمحت

محمد الأصفر

اترك تعليق