سلسلة روّاد الإصلاح في ليبيا – 2
أسامة بن هامل
سيدي مفتاح “سواق الحجل” رائد الصحة البيئيّة في ليبيا، سبق كل منظمات العالم اليوم، وأضطلع بدور وطني إصلاحي لولاه لهلك سكان البلاد، إذ يحصي المؤرخون أن الأوبئة، في زمنه “أزهقت أرواح عشرة آلاف شخص في مدينة طرابلس وحدها، وأكثر من خمسين ألف نفس في الدواخل، وكانت النساء والأطفال على الخصوص من بين أكثر ضحاياه” أ. هــ
وسيدي مفتاح، هو المصلح الليبي الكبير الرحالة مفتاح العطوي الفيتوري الحسني الادريسي، ولد في مدينة زليتن، غرب ليبيا، وبها نشأ ودرس وتعلم في زاوية الإمام الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر (ت 981 هــ / 1573 م) وسلك على يديه الطريقة العروسية حتى أصبح من كبار رجالها، وتوفي بمدينة زليتن عام 1050 هــ 1640م تقريبا (انظر موسوعة القطعاني ج 2، ص 89)، وحول مدفنه الطاهر بمنطقة السبعة يقام مزار سنوي، سيوافق هذا العام يوم الجمعة المقبلة 24 سبتمبر 2021م.
ورغم شحّ المعلومات عن حياته في كتب التاريخ، إلا أن سبر غور ما توفّر منها يعكس صورة شخصية ليبية وطنية رائدة، خصوصا إذا استندنا الى ما حفظته الذاكرة المحلية الليبية الصلبة التي أبت شخصيته أن تغادرها رغم مرور قرابة الخمسة قرون على وفاته، وعليه يندرج تاريخه فيما تعارف المؤرخين على تسميته بــ”الزمن الطويل”، ضمن “علم الذهنيّات”، أهم فروع علم التاريخ، فقد بقي حيًّا في ذاكرة الليبيّين يحمل احتراما خاصا في وجدانهم، ودون شك فمثل هذه المكانة العصية على النسيان تشير إلى دوره الفاعل و الكبير في خلفيات حركة التاريخ الليبي.
ومُجمل ما ترويه مدونات التاريخ الليبي أنه كان يخرج إلى وادي ماجر، جنوب زليتن، ويسوق معه عددا من أنواع الحياة البرية التي تعيش في ذلك الوادي، ومن بينها طائر الحجل، فإذا ما أراد الناس صيدها، أشار إليها بيده فترجع لأوكارها.
ومن غرائب ما يروى في سيرته أنه يخرج إلى مراعي البلاد في الأودية والشعاب فيذبح ما يمكن ذبحه من الغنم، رغم اعتراض أصحابها عليه، كما حملت سيرته إشارات لتفشي وباء “الطاعون” في البلاد.
وبعيدا عن تضييع الوقت في مناقشة مهاترات من ينكرون أفضال الله على أولياءه وما يجريه على يديهم من كرامات، أحببت أن ألفت اهتمام المحتفين والمهللين بأنباء اعتماد منظمة اليونيسكو، لمحمية “الشعافيين” كأول محمية ليبية ضمن برنامج “الإنسان والمحيط الحيوي” حول العالم، إلى قدم دور التصوف في ليبيا في حماية البيئة والحياة البرية، وريادة سيدي مفتاح “سواق الحجل”، الذي سبق العالم بهذا الاهتمام بثاقب فهمه ووعيه ومسؤوليته الوطنية.
وإن لم ترد تفاصيل أخرى عن حياته، عبر المصادر المكتوبة أو الشفهية، إلا أن هذا القدر كاف لاستجلاء صورة دوره الرائد في مجال الصحة البيئية، ومن المفيد أن أُنّبه على ملامح تلك الصورة في شكل أسئلة: “لماذا التصق به لقب سواق الجحل تحديداً؟”؛ فالله سبحانه وتعالى أجرى على يديه مئات الكرامات، “وماذا يعني سوقه لأصناف من الحياة البرية من الأودية كوادي ماجر إلى البلد؟”، وكذلك “المعنى العميق لمنعه للناس صيد تلك الأصناف ومنها الطيور والحجل على رأسها، مقابل مبالغته ذبح الغنم في مراعيها”.
وتعكس هذه الوقائع إدراكا عميقا لدى سيدي مفتاح بأهمية إحلال أصناف جديدة من الحياة البرية في منطقته لتوطينها، ومقاومته لظاهرة الجور في الرعي والصيد، وهما من أخطر العوامل التي تتسبب في اختلال توازن البيئة، ويُفهم هذا بشكل واضح من منعه الناس صيد ما يجلبه من الأودية، ومنعه في ذات الوقت لرعاة الأغنام من الجور على المراعي والقضاء على الأنواع النباتية.
أما “الحجل” تحديداً، فربما تكون أهميته واعتناء سيدي مفتاح به على علاقة بما تعيشه البلاد من انتشار لوباء “الطاعون” الفتاك، فمدونات التاريخ تحمل إشارات إلى انتشار القوارض وغزو الجراد التي تُعد أهم وسائل نقل الطاعون وانتشاره في البلاد، ويعرف الخبراء بحياة هذا الطائر أن تلك الحشرات غذاءه المفضل.
ومما يضاف لرسم صورة الدور الإصلاحي الذي مارسه سيدي مفتاح في هذا المجال، الروايات حول شخصية أخرى يبدو أنها شاركته في مشروعه الإصلاحي، وهو خاله سيدي “سالم زواي الجرارة”، الذي يتواتر عند أهل البلد حادثة من حاول سرقة “جرارة” بئر مزرعته ليلا، وعند هربه بها صارت تصدر صوتا عاليا وهي على كتفه ما جعل أهل المنطقة يتيقضون له وانفضح أمره، و”الجرارة”، هي العجلة التي يُجر عليها حبل دلو البئر، وكلها إشارات هامة على وجود حركة استصلاح وزراعة بالمنطقة كان يقودها خال سيدي مفتاح، الذي يدرك تماما أهمية عنصر الماء كعامل استراتيجي لحركة الاستصلاح وإقامة المزارع، وهو ما أدركه أيضا من كان كانوا يحاولون وأد هذا المشروع الإصلاحي، فركزوا سرقتهم على “الجرارة”، ودونها، بكل تأكيد، لن يتوفر عنصر الماء.
وأنا ذكرت سيدي سالم هنا، لدعم قراءتي الخاصة بمشروع سيدي مفتاح الإصلاحي، ولمكانته الخاصة عند سيدي مفتاح الذي اشترط زيارته قبل زيارته لقبولها.
نعم، لا تزال سيرة سيدي مفتاح “سواق الحجل”، تحتاج دراسة أكثر عمقا، لكنها لن تدور بعيدا عن فلك إدراكه ووعيه بمسؤولية لأهمية خلق بيئة متوازنة للعيش، سابقا بذلك أكاديميات وجامعات العالم اليوم لدراسة ما تعارفوا على تسميته بــ” حماية النظم الإيكولوجية”، فقد سعى سيدي مفتاح لخلق توازن بين الأودية والساحل والبحر، وهي عوامل تتوفر عليها مدينة زليتن.
وما زلنا نحتاج دراسة أكثر عمقا أيضا لمحيطه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، والإشارات الهامة التي حملتها سيرة ابنته الوحيدة السيدة “ظعناء”، التي كان والدها يحمل لها مكانة خاصة جعلتها تحافظ على استمرار دورها والدها الإصلاحي في نشر الوعي الصحي بين الناس باقتدار، خصوصا وأن مدونات التاريخ تشير إلى ثقافتها الواسعة في هذا المجال، إذ تتحدث عن كثرة زيارتها للمصابين بوباء “الطاعون”، فإذ ما “زغدرت” على مريض استبشر أهله بشفاءه، وإذا ما صدرت عنها علامات حزن يأس أهله من شفاءه، وكثرة زياراتها نفهم منه عنايتها بمتابعة وضع ذلك الوباء وارتفاع مؤشراته لدرجة صعوبة مقاومته بالوسائل المعروفة، لنجدها تبحث عن وسائل أخرى على رأسها الدعم النفسي للمريض وأسرته، ودخلوها على المصابين بذلك الوباء الفتاك يشير إلى معرفتها بوسائل وقاية نفسها منه، ودرايتها بأعراضه ومضاعفاته ما يجعلها تدرك لأول وهلة نجاة هذا المرض منه فتبشر أهله بمظاهر الفرحة المعروفة وقتها، أو عدم نجاته لتهيئتهم لقبول القدر المحتوم.
ما أحوجنا اليوم الى الغوص في مخزون الذاكرة المحلية وما حفظته المدونات التاريخية حول الشخصيات الليبية لاستخراج جوانب ترسم صور أدوراهم المجتمعية في إطار نظرية التصوف الليبي الإصلاحية الرائدة، التي لا تزال بعيدة عن متناول يد الدارسين والباحثين في التاريخ الليبي.
وأجدني أذهب للتأكيد مرة أخرى بعد مقالي السابق (تراث الأستاذ الأكبر سيدي عبد السلام الأسمر، أكبر مصادر ومراجع تاريخ ليبيا)، على ضرورة حفظ الرواية الشفهية وأرشفتها، وإخضاعها للدراسة كأهم أهم مصادر تاريخنا، خصوصا وأنها تحظى بعناية كبيرة في أقطار ودول تقدمت فيها مناهج وطرق دراسة التاريخ واستنطاق نصوص التاريخ غير المكتوب.
وقبل أن أغادر مقالي هذا الى انشغالاتي الأخرى، أود أن أشير الى ريادة السادة الصوفية في مجالات أخرى، نبه إليها شيخنا العلامة القطعاني في أكثر من موضع في كتبه، ومنها:
– ريادة سيدي سالم المشاط (ت 899 هــ / 1493م)، في العناية بالأطفال الأيتام (موسوعة القطعاني ج 1 ص 335).
– ريادة “سيدي زلي”، دفين زليتن، في الحفاظ على حقوق المرأة الدفاع عنها، قبل قرون من عمل المنظمات الدولية التي تصف نفسها اليوم بنصير المرأة، فشيخنا القطعاني أكد في من محاضرة ودرس أن “سيدي زلي” سبقهم إليها، حيث كان تأوي إليه المطلقات والأرامل ومن لا عائل لهن ليذود عنهن من عوادي الزمان والغزاة، وأكثر من ذلك حدثني شيخنا القطعاني مرة أن العلاقة العجيبة بين سيدي زلي والنساء استمرت حتى بعد وفاته فالنساء هن من يخدمن ضريحه المبارك، وعادة ما تجد سيدة تقيم في ضريحه لخدمته وإذا ما توفيت أعقبها أخرى.
وآخر من خدمن ضريح “سيدي زلي” من النساء الصالحات، الحاجة يزه الصفرانية، التي توفيت يوم 17 أغسطس الماضي.
* رئيس مركز العلامة الليبي أحمد القطعاني للثقافة والدراسات الصوفية
طرابلس – ليبيا / الاربعاء / 22 سبتمبر 2021م