نشوى زكريا الغرياني
لطالما استلهمتني الموسيقى ليس أي موسيقى؛ بل موسيقى البيانو الكلاسيكية الخالية من الكلمات، فقط شخص ما يعزف، يضغط بإصبعه على هذا المفتاح وذاك؛ فيُنتج لحناً تقشعر الأبدان من حلاوته، وتُسحر منه العقول؛ فنسبح في عالم الخيال الخاص بالعازف، حيث تتسلل أحلامه لعقول المستمعين، فيذهبون بذلك إلى عالم حالم تتحقق فيه جميع الامنيات، عالم لا كره فيه ولا بؤس،
منا من يذهب لهذا العالم، ومنا أيضاً من يعود إلى الماضي، ليس الذكريات هي التي تعود له؛ بل هو من يذهب إليها مهرولاً لكنه يتمخطر ايضاً، يذهب إليها بكل شوق وحنين، حيث يحتضن كل ذكرى على حدي، لا أعرف ربما يكون حضن ألم في بعض الاحيان، لكن ما أعرفه هو انه يميل لأن يكون حضن سعادة واشتياق وحنين.
تتحرك يدا العازف بسرعة أكبر ليبدأ بعزف موسيقى مؤلمة؛ ليست مؤلمة للأذان، بل هي مؤلمة لذكرياتهم؛ فهي تذكرهم بكل ما هو سيء، تذكرهم بوفاة أمهاتهم ربما، أو بمرض اصدقائهم، في بعض الأحيان قد تذكرهم بهجر أبنائهم لهم، أو تذكرهم بوطن تم احتلاله، قد تذكرهم بذاك الوقت الذي كانوا فيه في أمس الحاجة للمساعدة، لكنهم لم يجدوا شخصاً يساعدهم سوى أنفسهم.
يعود العازف لعزف موسيقى متساوية في الهدوء والصخب، لتمتزج كل ذكرياتنا ولنكتشف أن حتى الذكرى السعيدة هي ليست سعيدة في الحقيقة بل هي الشكل الاخر للبؤس، وكأن البؤس وضع قناعاً ليتصنع السعادة، أتضنون أن تلك الذكرى هي من جعلت من نفسها بؤساً؟ لا ليست هي، بل نحن من جعلناها هكذا؛ فهي الذكرى السعيدة التي تذكرنا بالبؤس، كذكريات أم لأبنتها وهي تلعب لكن فجأة تتذكر الأم أن أبنتها تلك قد توفيت منذ زمن، كذكريات رجل عن حياته هو ووالدته وعن تلك الأيام التي كان فيها صغيراً لا يعرف شيئاً عن الحياة، ثم فجأة يتذكر أنه كان يُعذب في تلك الأيام بل تم اضطهاده أيضاً.
فهي هكذا الموسيقى مع كل لمسة على مفتاح تنبثق ذكريات أخرى وأخرى وأخرى، منها المؤلم، ومنها ما يجب أن يكون ذو أثر جيد علينا لكنه يعطينا العكس تماماً، فالموسيقى ليست سوى شيئاً ما يبعث بكل تلك الطاقة السلبية للناس، لعقولهم ولقلوبهم ولكامل أجسادهم وأرواحهم، فهي السواد ذاته ولهذا السبب نحن مغرمين بذاك اللون الأسود، مغرمين ببؤسه وبأحزانه وبصلابته، بل ونجعل منه لوناً يمثل السعادة بالنسبة لنا رغم اننا نعرف حقيقته.
يعود العازف لعزف موسيقى هادئة جداً، ليعم المكان باللون الابيض الممتزج بالأزرق والأخضر والوردي،
لون أزرق فوق رؤوسنا ممتزج بالأبيض يعطينا شعور بالراحة والطمأنينة، ونحن نرى تلك الطيور الحرة في أعالي السماء، متمنيين أن نكون مكانها يوماً ما، أطفال يركضون على المرج الأخضر ويلعبون، لا يهتمون بشيء سوى ببائع المثلجات الذي يقف على حافة الطريق، وفتاة تقطف زهرة وردية كخديها المنتفخين، تقطف بتلات تلك الزهرة واحدة بعد الأخرى وهي تتمشى؛ محاولةً أن تقرر أي نوع من المثلجات تأخذ، أتأخذ تلك التي بنكهة الفراولة أم تأخذ التي بنكهة الفستق؟
كل من هو موجود بذاك الحقل لا يعلم ما الذي يوجد في النصف الأخر من الطريق، في الحقل المقابل المليء بالأشواك والنباتات الميتة، لا يعلمون أن البؤس ينتظرهم هناك، فعندما يكبرون ويصبحون جاهزين لقطع الطريق عندها كل شيء ممكن، ربما اصطدام سيارة بأحدهم، أو ربما هجوم أحد الكلاب الضالة الموجودة بالحقل الأخر عليهم، ربما شجار يحدث بينهم، أو ربما يحدث ذاك الشجار مع مجموعة أخرى من الغافلين عن العالم، كل الذي أعرفه هو أن هناك شيء بائس سيحدث لهم وسيخلف أثره عليهم، ربما ندبة على الخد الأيمن لأحدهم، أو ربما روح تتمزق احلامها بسببهم.
نعم هذا ما يحدث للذكريات التي نعتقد أنها سعيدة؛ رغم أننا سنستمتع بها في بداية المشوار وهي موجودة في ذاك الحقل الدافئ، لكن لا بأس فكل ذلك ليس سوى…
“ذكريات الماضي” صاحها أحد الحاضرين بعد أن انتهى العازف من عزف مقطوعته الكلاسيكية على البيانو.