صفحة من كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية”
يستلزم شخصيّة الشّاعر، وهو الشّخصيّة العارفة، أن تكون موسوعيّة، فلا يكتفى منك مثلا إن كنت متخصصا في الشّريعة أن تعرف “ما هو معلوم من الدّين بالضّرورة”، أو أن تكون معلوماتك في اللّغة العربيّة معلومات طلاب المرحلة الثّانويّة، وكذلك إن كنت متخصصا في التّاريخ أو الجغرافيا أو في الفلسفة وعلم النّفس أو في أيّ فرعٍ من فروع المعرفة. تمدّد قدر ما تستطيع ليكون امتداد بصيرتك أوسع من امتداد أفق بصرك.
لا تقف عند حدود معرفتك الأولى الأوليّة. تعمقْ في فروع المعرفة الأخرى؛ إنّك تعيش في عالم موّار بالأفكار، ويجب أن تفهم ما يدور حولك، فثمّة تاريخ في اللّغة، أيّ لغة، وجغرافيا وسياسة وعلم اجتماع وفلسفة وموسيقى وفنّ تشكيليّ، وثمّة لغة في التاريخ وفي القانون وفي العلوم وفي الرّياضيات.
ولهذا يتوجب عليك القراءة والحوار ونقاش الأفكار، فلا يصحّ مثلا قراءة الكتب وأنت لا تحسن الدّخول في حوار ومناقشة مع أصحابها، فإذا قرأت كتابا فعليك بالمقابل حوارات عشرة إزاء كل كتاب قرأته أو قصيدة كتبتها أو ديوان شعر أبدعته.
إنّ استبطان العلاقة بين الكائنات ضروريّة أيضا وليس فقط استبطان العلاقات بين البشر، فثمّة صوفيّة متكاملة تجلّل الكون بفلسفتها الشاملة، تقول لك: إنّ هذا الكون واحد، انبثق من واحد، وسيؤول إلى واحد. فإذا ما قرأت قصيدة فاقرأها كأنّها لوحة عقليّة وبصريّة ونفسيّة وروحيّة وفنيّة تثير فيــك استحضار الخيال والإحساس العميق بروعة الحياة، فكما أنّك ترى في القصيدة فكرة ولغة، فعليك أن ترى أنّ فيها نظاما رياضيّا أبعد من الصّورة اللّغويّة، وأبعد من نظام الأعداد والمتتاليات، فثمّة فلسفة اجتماعيّة كاملة وكيان إنسانيّ شامل في كلّ فكرة تقرؤها، سواء أقرأتها في كتاب مطبوع أم في كتاب الكون المترامي الأطراف أم في كتاب هذه النّفس المركّبة الّتي تجهل وتتعمّق في جهلها كلّما زادت إقبالا على المعرفة.
إنّ وجودك في هذه الحياة لا يعطي معنى لحياتك لمجرّد أنّك كائن حيّ تعيش على وجه هذه البسيطة، وتمارس شهوتك اللّغويّة بعبث، لا تحوّل حياتك إلى “مجرّد منفضة” تؤدَي فيها دورا متواضعا بسيطاً لا يشعر بأهميّته سواك، وربّما عشت الحياة وغادرتها وأنت تجهل لماذا كنت عليها، ليس مطلوبا منك أن تكون عظيما كشكسبير وسقراط وأفلاطون، وقبل أن تطوى في قطعة من القماش وتضمّك حفرة موحشة ضيّقة، صديقا مزعجا للوحدة والفراغ. عليك أن تسأل ماذا سأقدّم؟ وماذا قدّمت؟ وقبل ذلك أن تسأل: لماذا؟ وتجاوز ما استطعت الدّخول في اشتباكات هل وكيف وماذا، وانغرس في سؤال لماذا، حاول؛ ففي المحاولة شرف عظيم لا يناله إلّا ذوو الألباب وتيقّن أنّ ما في داخلك ليس فقط دم وأعصاب ومعدة تبحث عما يسدّ جوعها، ففي داخلك قصيدة باذخة مُشْبَعة بالرّؤى والموسيقى والصّور وتستوطنك أرواح أجدادك من الشّعراء والفلاسفة والأنبياء والقدّيسين فأنت وريثهم الشّرعيّ، فلا تخيّب آمال أرواحهم، واترك لهم بسمة رضا مرسومة على شفاههم وهم ينظرون إليك من علياء مثواهم الأبديّ، ليفسحوا لك مكانا بجانبهم عندما يحين موعد لقائك بهم ويستقبلونك وهم بك مسرورون يهيّئونك للدّخول إلى ذلك العالم الّذي لا يُنسى، لا تطمح أن تكون ملكا عظيماً، ولكن قاوم من أجل أن تكون شاعراً جميلاً.