يشير تبني رواية ما لحادثة تاريخية معينة، والقبول بتعدد الروايات حولها إلى وجود معضلة تأسس إلى قبول كل الروايات في منطق الصراع الفكري الذي يقود إلى الصراع على الأرض. في فلسطين ثمة روايات متعددة لحدث النكبة، ثمة سرديات مختلفة في الجهة الواحدة، فهناك سردية دينية وأخرى تاريخية، وتنحلّ السرديتان إلى سرديات فرعية تتشابك وتتصارع فيما بينها، فكيف ستتصارع مع الرواية التي تعدها نقيضا؟
في تقديري الشخصي أخطر تلك السرديات هي السردية التاريخية للصراع على الأرض. التاريخ غير حقيقي وغير شامل وفيه جوانب معتمة كثيرة، والسردية التاريخية بشكل عام هي سردية مخاتلة وفيها الكثير من المراوغة والخديعة والخذلان، ويزداد هذا الأمر وضوحا في الحالة الفلسطينية، نظرا لتاريخ فلسطين الممتد والمتعمق في الزمن، الجغرافيا ثابتة والتاريخ سائل ومتحرك. سكن هذه البلاد سكنا شرعيا ملايين من الناس من أديان وأعراق مختلفة، حتى وصلنا إلى الحالة السياسية اليوم، لمن هذه الأرض اليوم؟ أيحق للتاريخ أن يقول كلمته في ذلك؟
في السياسة لا منطق إلا منطق القوة، فالتاريخ ليس له اعتبار عند السياسيين، فأمريكا تحولت إلى مستعمرة “الرجل الأبيض” رغما عن قوة التاريخ وعشرات الملايين من الهنود الحمر، وإسبانيا تأسلمت ثمانية قرون ثم عادت إلى الصبغة الغربية، وكذلك الحال مع فلسطين، كانت بيزنطية مسيحية بعد أن كانت وثنية كنعانية ثم غدت عربية إسلامية، ثم ها هي اليوم ذات صبغة عبرانية. لا أحد يستشير كتّاب التاريخ، فهؤلاء عليهم أن يكتبوا أعمال المنتصرين، هؤلاء هم القادرون على المحو والإلغاء والتغيير وليس كتّاب التاريخ وأصحاب منطق “السرديات المتصارعة” على أرض فلسطين.
ومع كل ذلك، ومع إيماني العميق بلا جدوى “صراع الروايات” مع المحتل، لأنه يستهلك الوقت والجهد بلا طائل، فلا هم سيخضعون لمنطق التاريخ إن كان قويا ولا سيغيرون الحال، ولن يفسحوا لنا المجال لنظل على هذه الأرض ونتصرف فيها بحُرية، ووصلوا إلى ضرورة عدم اقتسام الأرض معنا، لأن منطق القوة هو الحكم الأول والأخير وليست قوة المنطق التاريخي، مع أن التاريخ أيضا لا يبشر بخير مطلق، ففيه ما يخيب أملنا أيضا لو أردنا الاستناد على التاريخ في أعماقه.
سأسلم جدلا بمنطق التاريخ، فكيف سنبني سردية فلسطينية متماسكة في مواجهة التاريخيات الأخرى؟ وإلى أي حد يمكن أن نستفيد من التاريخ القديم الموغل في الزمن لبناء مثل هذه السردية المتصلة والمنطقية؟ وكيف يمكن أن نقرأ التاريخ وأحداثه؟ وبأي أدوات، علمية علمانية، أم دينية عقائدية؟ ثمة صراع مخفيّ داخل هذا البناء الهشّ في بناء سردية مقبولة لدى الجميع، العلماني الأكاديمي سيكون في صراع فكري مع الديني الشعبي والديني السياسي. كما أسلفت.
إضافة إلى ذلك، لا بد من أن نواجه أنفسنا بحقائق تاريخية ليست بعيدة عنا، إنها ابنة العصر الحديث والنكبة المعاصرة، ويجب ألا نغفل عن ذلك، وخاصة دور العرب والأنظمة العربية وجيش الإنقاذ الذي أغرقنا في لجة الاحتلال، فالنظام العربي الرسمي ما زال غربي التوجه، صهيوني السياسة، تضليليّ الفكر، متحالف مع القوى الاستعمارية الغربية ضد الشعوب أولا وضدنا نحن ثانيا.
إن أية سردية ستظل “سردية” غائمة وناقصة وخادعة إن لم تبحث هذا الجانب من الرواية الفلسطينية، ولا يمكن لها أن تكون فعالة إلا إذا تمّ تداولها في المدارس وفي الجامعات بشكل علمي منهجيّ موثق في كتب مقررة جنبا إلى جنب مع مساق القضية الفلسطينية والتربية الوطنية، ويضيء عليها الباحثون في الدراسات المحكمة. فالفلسطينيون أبناء التاريخ الحديث لم يتخلوا عن أرضهم كما اتفق العرب والمحتلون على أن يقولوا، بل وَثِق الفلسطينيون بجيوش العرب التي خدعتهم، وسلمت البلاد إلى العصابات الصهيونية، وساعدت على طرد الفلسطينيين من ديارهم. لو لم يكن هناك “جيش إنقاذ” عربي لم تكن البلاد قد سقطت بهذه السهولة المُرّة، أو على الأقل، لما استقرت على ما هي عليه اليوم.
لقد تكرر هذا السيناريو الخبيث المر فيما عُرف بحرب الأيام الستة؛ إنها لم تكن أكثر من مسرحية لتسليم بقية “غرب النهر”، إتماما لما تم الاتفاق عليه “مسبقا” بين “الهاشميين” وبين بريطانيا في اقتسام البلاد، ليكون غربيّ النهر للكيان الغاصب، وشرقيه ملكا وراثيا لأحفاد الهاشميين من نسل “الشريف” حسين القادم من عمق الصحراء العربية ليمنح هذه البلاد (فلسطين) للحركة الصهيونية.
كثير من الحوادث على الأرض كتب عنها الذين عاصروا تلك الأحداث شربوا المرارة مرتين، والأمرّ كان من يد الحليف العربي الذي كان يدا علينا وسيفا لقطع رؤوسنا. إن أية سردية فلسطينية لا بد لها من أن تعرّف الأجيال القادمة كيف ضاعت فلسطين، وأي تلك القيادات التي أضاعتها. على من سيصوغ تلك “السردية” أن يبين دور “الملك عبد الله الأول” وكيف حمى الصهاينة وأمنهم في مدننا وقرانا وخذلنا نحن الفلسطينيين، خذلنا في أرض المعارك الزائفة وخذلنا في رودوس وخذلنا لاجئين. وما زال النظام الأردني كما هو النظام المصري كما دول الخليج التطبيعية كما المغرب كما السودان عناصر خذلان للقضية الفلسطينية.
أية سردية فلسطينية عليها أن تبين دور النظام العراقي في الستينيات كيف ساعد اليهود بل أجبرهم النظام العراقي بالتعاون مع زعماء الحركة الصهيونية على الخروج من العراق ليهاجروا إلى بلادنا ليسكن اليهودي العراقي في بيتي. وعلى أي سردية فلسطينية للصراع عليها أن تقول كيف خذلنا “حافظ الأسد” وعمل فينا ما عمل في تل الزعتر، وكذلك اللبناني وتحالفاته مع العدو لكنسنا وتحجيمنا والقضاء علينا ومحاصرتنا.
إن أي سردية فلسطينية رسمية تسكت عما صنعته بنا الأنظمة العربية ستكون هذه السردية إحدى تجليات خذلان المرء لنفسه. على أبنائنا أن يتعلموا في المدارس أن يوسف الفلسطيني خذله إخوته قبل أن يبيعه زعر ليصبح رقيقا ومسجونا.
وعلى السردية الفلسطينية أن تقول وبصريح العبارة كيف خذل المثقف العربي القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني وناصر الاحتلال، حتى قبل إنشاء الكيان الغاصب، وأن يكف النظام التعليمي الفلسطيني عن تبجيل هؤلاء كتابا ومثقفين كباراً، بل على النظام التعليمي أن يكشف عن المثقفين المناصرين لقضيتنا، ويدرس نصوصهم وكتبهم، فكل من خذلنا لا ينبغي لنا أن نقرأ أدبه مهما كان، فهم منافقون، وما قدموه من أدب لا يساوي شيئا أمام ما جنت علينا مواقفهم السياسية في وقوفهم مع المحتلين والقتلة. يجب علينا أن نكون “متطرفين” و”متشددين” أكثر من أي وقت مضى، وإلا فإن الحقيقة ستُعرف، والأجيال ستكشف زيفنا، ولن يرحمنا أحد.
أظن أنه قد حان الوقت لنقول ما يجب أن نقوله، وعلى تلك الأنظمة أن تعترف بخطاياها، وتكفر عن آثامها، وتكف أيديها عن القضية والتدخل فيها، وليكن “النظام الثقافي الفلسطيني” قويا ليعري ويجلي هذه الحقائق، ومن أراد أن يغضب، فليغضب، وعلى النظام السياسي الفلسطيني أن يتحرر من التبعية والاستجداء. فتلك الأنظمة لا تدفع الأموال للفلسطيني إلا لأنها أضاعت أرضه وشردته، فعليهم أن يتحملوا ذلك غصبا عنهم وحقا لازما في أعناقهم، فهم السبب فيما نحن فيه الآن، أعيدوا لنا الأرض وأخرجوا المحتل منها كما أدخلتموه، بل خذوه إلى دياركم وأعطوه عواصمكم ودللوه كما يدلل أحدكم ابنه وابنته، وأطعموه، وأدخلوه غرف الاستقبال، وزوجوه وتزوجوا من بناته الشقر، وحسنوا من نسلكم وأنسابكم معه، أما فلسطين وخيراتها وأبناؤها وبناتها فمقدسون كالقدس بل أطهر.
إن أردنا أن تكون المعركة معركة تاريخ ورواية وبناء سردية قوية، فمن الحكمة ألا يقف الفلسطيني في منتصف الطريق ضعيفا خائبا منتظرا، فقد حان الوقت لا ليكتب الكتّاب رواياتهم وأشعارهم ومقالاتهم فقط، بل حان الوقت للتخلص من “النزعة الفردية” والشخصية والمصلحة الذاتية لنضع نقاطنا نحن على حروفنا وتكون الخطوة الأولى للانطلاق نحو التحرر، بالخلاص من وهم “القومية” التي أضاعتنا، ومن وَهْم العرب الذين يدعموننا، فما حكّ جلدك مثل ظفرك، فلتتولّ- أيها الفلسطينيّ- جميع أمرك، ولتذهب الدبلوماسية والدبلوماسيون إلى قعر جهنم، فهي بهم أولى، وهم بها أحرى وأليق.