أخذني ظلام دامس إلى وجهك السماويّ؛ أخذتني نشوتي إلى سريرك الخشبيّ؛ أخذتني دهشتي إلى أقلامك الملوّنة؛ تركت في غرفتي جرائد مبعثرة، تركت في لوحتي أكثر من لون لا يدلّ على لون بعينه؛ أنا أريد لونك لم أجد لونك؛ لماذا أخذت كلّ الألوان؟ أنا أريد شكلك؛ لماذا أخذت كلّ الأشكال؟ لماذا تركتني دون شكل أبحث عنك في كلّ شكل؟ لم تعد الأشكال هي الأشكال؛ لم تعد الألوان هي الألوان؛ تركت في غرفتي أكثر من قبلة؛ أكثر من لوحة ترسم تفاصيل قبلة تذوب كما يذوب الجليد في مرتفعات الجبال؛ كم علّقت صورتك على ذلك الجدار الأماميّ؛ كم تسلّقت ذلك الجدار الخلفيّ؟؛ كم سقطت من أعلى الجدار أبحث عن صورتك في أسفل الجدار؟ حيث تركت العنكبوت يحرس اللّوحة؛ حيث تركت الأقلام الحمراء؛ حيث تركت الأقلام السّوداء؛ حيث تركت حزني؛ حيث تركت صمتي يدلّ على صمتي؛ حيث تركت جسدي يخاطب جسدي؛ حيث تركت دون أن تترك أيّ شيء؛ أيّ ذكرى تدل على ذكرى؛ أيّ قصّة تدل على قصّة أو أيّ لون يدلّ على لون محدّد أو أيّ حبّ يدلّ على أجمل حبّ وقد تحصّن وراء بيت العنكبوت؟
تركتني أنهض من فراشي وسط فراشي مذعورة؛ أصابني حياء كبير؛ خلت أنّ الحافلة مرت من هنا؛ خلت أنّ وجهك الخرافيّ بقي هنا؛ خلت أنّك عدت بعد سفر طويل؛ عدت بعد حبّ غاب مع النّجوم والقمر؛ ربّاه ما شكل السّماء وما لون القمر؟ لم أجد طيورك في السّماء؛ أين تركت نشوتي؟ لماذا هجرت السّماء؛ لم أعد أراك في أقصى السّماء تعبد النّجوم والقمر؛ أين تركت تذاكر سفرك؟ لم أجد بقايا سجائرك؛ لم أجد بقايا جرائدك وسط المسافرين؛ لم أجد بقايا عطرك بين المودّعين؛ كلّ الوجوه تغيّرت؛ كلّ الرّكاب غادروا مقاعدهم؛ كلّ الحقائب ضاعت؛ كلّ المحطّات فارغة من الفرح؛ كلّ الصّحف فارغة لأنّها لم تنشر اسمك وصورتك و مدينتك؛ لم أجد فيها بلاغا يشير من قريب أو من بعيد إلى ضياعك؛ كل الأخبار كاذبة لأنّها لم تأخذني إليك؛ حيث سافرت دون حبّ تبحث عن حبّي أو دون فرح تبحث عن فرحي؛ هكذا أجمع ما بقي من تلك الجرائد أو الأفكار؛ أو ما بقي من تلك الألوان دون أن أعرف أيّ لون تحبّ؟؛ أيّ تمائم تريد؟ أيّ أنثى تحبّك في آخر الطّريق؟ أيّ لوحة فيها ضفائر تختار؟ هكذا أجمع ما بقي على فراشي من نشوة كلسان الشّمعة في صفاء الدّمعة؛ أتخيّل أنّك تقترب من شرفتي… من سريري؛ لا أملك إلاّ أن أتخيّل أنّك تقترب من لوحتي؛ تقترب من أشعاري؛ أشعر أمام لوحتك المعلّقة بعناية… أمام صورتك المقدسة في غرفتي بارتباك خفيف؛ أتململ في فراشي؛ أنهض نحو مرآتي حيث أراك دون أن أراك؛ حيث ألقاك دون أن ألقاك؛ أختار لك أجمل الألوان؛ أختار لك أجمل الأشعار؛ أجمل الاحلام؛ أنظر من وراء زجاج النّافذة المبلّلة بالحبّ إلى أمطار الخريف تسقط كما تسقط نشوتي في نهر فاض من الدّموع؛ بدءا سقطت من فوق الجواد؛ لم أطلب النّجدة؛ كان السّقوط على الفراش خفيفا كرذاذ المطر في الصّحراء؛ كسّرت الزّجاج؛ بحثت عن ثقب صغير أرى من خلاله أثرا تركه ذلك الجواد يعدو بين النّهدين أو بين النّهرين وقد ابتلع في جوفه تلك الصّحراء؛ أخيرا بعد جهد جهيد وجدت أثرا كالجرح في اللّسان؛ نعم وجدت حبّا كحبّات العنب في هضاب الصّحراء؛ وجدت أكثر من ثقب في شرفتي أرى من خلاله لوحتك الكبيرة؛ حيث تركت أجمل حبّ في الوجود؛ حيث تركت خيولي تنتظرك؛ حيث تركت صهيلا كالأغنيات فوق سريري؛ ألا تفهم نداء خيولي؟ الاّ تحسّ أنّي أحتاجك في هذا الظّلام الكثيف؟ ألا تفهم أنّي أحتاجك في هذا الوقت المتأخّر من اللّيل؟؛ ألا تدري أنّي صرت لا أحبّك إلاّ في هذا الوقت المتأخّر من الذكرى؟؛ ألا تدري أنّ أسرار الحبّ تبقى معنا إلى وقت متأخّر من الذكرى؟ كان الظّلام حالكا بحيث لم أستطع أن أتبيّن فيه ملامح وجهك؛ عفوا ملامح حبّك؛ عفوا ملامح صمتك؛ عفوا ملامح نشوتك؛ ضاعت عيناك في الظّلام؛ حاولت جاهدة أن أتفحّص كلّ الأشياء التي أخفيتها في غرفتي…في حقيبتي وقد ضاعت حقيبتي؛ أنت أخفيت حبّي؛ أنت تركت غرفتي؛ أنت أخذت أدباشا نشرتها في شرفتي؛ انت أخذت جرائدي؛ أنت تركت أبقاري ترعى دون طمأنينة؛ أنت تركت أزهاري دون ماء تحتاج إلى الماء؛ أنت تركت جسدي دون نشوة يشتاق إلى النّشوة قبل خروج النّشوة؛ أنت تركت جسدي دون ذكرى يحتاج إلى الذكرى؛ لماذا فكّرت أنّك ستأتي في هذا الظّلام؟ لماذا فكّرت أنّك أنت من طرق باب غرفتي في ساعة متأخّرة؟ لماذا فكّرت أنّك أنت من أحتلّ أرضي وأخذ أبقاري؟ لماذا أحسست أنّك أنت من رسم اللّوحة؛ لماذا فكّرت أنُك أنت من أختار الألوان؟ لماذا أحسست أنّك أنت من طرق الباب؟ كانت الطّرقات متتابعة و خفيفة كرذاذ المطر في الصّباح الباكر؛ كانت اللّحظة قويّة كدويّ الرّعد يزلزل النّوافذ القديمة؛ أو كصوت الريّاح وسط الرّياح يدغدغ الأشجار والأنهار؛ ليتني كمل قال أحد الشعراء” وردة حوريّة في حديقة ما يقطفني شاعر كئيب أواخر النّهار…أو حانة من الخشب الأحمر يرتادها المطر والغرباء” أنت من أمر العنكبوت بأن يحرس باب بيتي؛ أنت فنّان مجهول أراد أن يرسم في لوحتي جنّة وراء البحر؛ صرت أحبّ ركوب الخيل بحثا عنك؛ صرت أحبّ ركوب البحر؛ صرت أغرق… إنّي أغرق… الحبّ عشبة بحريّة لا تنبت إلاّ في أعماق البحر وسط المحيط؛ نعم هي عشبة لا تنبت ولا تتنفّس إلاّ تحت الماء؛ ومن الصّعوبة بمكان تصنيفها وسط تلك الأعشاب الطفيليّة الأخرى؛ حبيبي كلّ العشّاق لا يلتقون إلاّ في اللّوحة؛ لا يلتقون إلاّ في ساعة متأخرة وقد هجمت العاصفة البحريّة؛ كلّ العشّاق لا يلتقون إلاّ في ساعة متأخّرة من هبوب العواصف الثّلجيّة؛ هم يسكنون في منطقة نائية بين النّهدين على مفترق يجمع بين جبلين من الحبّ؛ كلّ العشّاق ينهضون في ساعة متأخّرة من الذكرى؛ كلّ العشّاق ينامون ولا ينامون؛ حبيبي أريد أن انام معك وسط شرفتين تطلاّن على مرتفعين جبليين إلى ساعة متأخّرة من الحبّ يصعد بك إلى الشّرفات؛ أريد أن أنام معك إلى ساعة متأخّرة من الفجر؛ أريد ان أنام معك إلى ساعة متأخّرة من طلوع الفجر أو طلوع النّشوة؛ صرت أفكّر لماذا أريد تحقيق كلّ شيء معك؟ صرت أفهم ولا أفهم لماذا ينهض العشّاق إلى الصّلاة قبل موعد الصّلاة؟ أغلبهم ينهض قبل الوقت المخصص للذكرى؟ لماذا يصفّقون ويفرحون ويغنّون قبل الوقت وأحيانا خارج الوقت المخصّص للحبّ؟؛ معك مات الوقت؛ معك بدأ الوقت؛ أنا معك؛ ولكن لا أفكر أنّي معك؛ أنت من أعطاني شعورا بأنّ الحبّ يأتي في وقت خارج الوقت؛ يأتي في ساعة خارج السّاعة قبل قيام السّاعة؛ كلّ العشّاق يكرهون الوقت ويفكّرون خارج الوقت؛ اقتربت من سريرك الخشبيّ؛ تظاهرت أنّي أبحث عن شيء ما أعرفه ولكنّي أعرف أنّك لا تعرفه؛ تظاهرت أنّي أعرفك؛ تظاهرت أنّي رأيتك فعلا؛ فعلا رأيتك تخرج من ثقب تركته في نافذتي؛ رأيتك تجمع الحبّ وسط تلك الأعشاب البريّة؛ رأيتك بصعوبة تخزن نشوتي في تلك الغيران الرمليّة… أخذت قوتي… نظراتي كما تأخذ تلك النّملة البريّة طعامها وطعام صغارها قبل هبوب العواصف الشتويّة؛ أخيرا رأيتك تداعب خصلات شعري؛ تصنع منها أزهارا لنا؛ تصنع منها عمرا لنا؛ تحتاج الأنثى في أجمل العمر إلى عمر آخر حتّى تتنفّس؛ حتّى تموت معك؛ حتّى تموت من أجلك؛ أردتك معي؛ في غرفتي؛ أنا وأنت وشيء من تلك الذكرى؛ وشيء من تلك النّشوة على سريري؛ زاد الظّلام ؛ زاد الشّوق؛ زاد العمر؛ لم أتبيّن تفاصيل يديك تعبر جسدي؛ تعبر باب غرفتي؛ تسرق مفتاحي؛ تسرق أحلامي؛ تسرق لوحتي؛ لم أفكر معك أن أغلق باب غرفتي؛ لم أفكر معك أن أنظر إلى الوقت؛ نحن نسير مع الوقت دون وقت؛ نحن نحبّ مع الوقت وخارج الوقت؛ نحن لا نفكّر من نحن؛ نحن لا نحسّ من نحن؛ إلاّ حين تلتقي العين بالعين ويذوب الكتف في الكتف؛ بعد العين؛ بعد الحبّ؛ بعد الفجر؛ رأيتك في الفجر؛ كلّ العشّاق يخرجون فجرا؛ يصلّون؛ يرقصون رقصا نائيّا رقيقا كالحبّ يتجمّع في أعماق النّفس؛ فكّرت لماذا لا نصلّي مع ذلك العنكبوت؟ فكّرت لماذا لا نرقص مع هؤلاء الصبيان؟ فكّرت لماذا لا نغني في ذلك العرس؟ فكّرت لماذا أتيت في هذا الوقت المتأخّر من الحبّ؟ فكّرت لماذا أتيت بعد الرّقص؟ لماذا أتيت بعد الصّلاة؟ لماذا أتيت بعد الحبّ؟ بعد ذكرى الحبّ صرت أحبّك. حتّى الغرفة تحبّك؛ حتّى النّملة احتفظت بحبّك؛ لم تخرج من غيرانها؛ حتّى الفجر رفض أن يتسلّل إلى فراشي؛ حتّى الفجر هو الفجر؛ حتّى الأشياء هي الأشياء؛ حتى الظّلام هو الظّلام؛ حتّى الديكة هي الديكة؛ هي تؤذّن كلّ صباح تطالب بتحقيق نشوتي؛ انتهى الحلم عندما سلب أحد الديكة من الدجاج نشوته الأخيرة؛ ثم عاد إلى أرضه عودة الملوك يطأ الثّرى مترفقا في مشيته بهدوء؛ ترى لماذا يصرّ الدّيك على تحقيق النّشوة فجرا؟ هل فعلا يطلب منّا العودة إلى الصّلاة؟؛ ألا ينبّهنا إلى حقوق ضائعة قبل وقت الصّلاة؟؛ جعلني الدّيك أفقد التّفكير؛ أصبحت أتفلسف؛ الدّيك لا يصيح إلاّ مع الفجر أي مع وقت النّشوة؛ أي مع وقت العبادة؛ وأنا لا أحبّك إلاّ فجرا مع وقت النّشوة؛ أي وقت العبادة؛ تلك رهبة ممتعة؛ نبّهني الدّيك إلى موعد قادم معك؛ مع اللّذة لا تخرج إلاّ في الصّباح؛ مع الرّوح لا تفارق الجسد إلاّ بعد وقت العبادة في أوّل المساء؛ بعد عصرين أو ثاني مغربين.
بنقردان- تونس