الأربعاء, 2 أبريل 2025
طيوب النص

Bishou

قطة. (الصورة: الكاتب الصديق بودوارة)
قطة. (الصورة: الكاتب الصديق بودوارة)

(1)

لم أكن أعرف أنني مشهور لهذه الدرجة.. أينما يممت، في الشوارع الكبيرة، في الأزقة، في الأحياء الغنية، في الأحياء البائسة، ينادونني باسمي.

بيشو.. اسم أطلقته على مودة، أمي اللي تبنتني وعمري شهرين، يعني ستة عشر شهرًا بعمر البشر.. كنت حينها بالكاد قد أنهيت فترة الرضاعة.

أبي “بيكي فيس” Peke-faced، وأمي شيرازية.. وهو سر محبة الناس لي في كل مكان.  

مودة فتاة طيبة، كأي فتاة ليبية، طموحاتها بسيطة، شهادة، ثم وظيفة ثم زوج.. عاشت في سجن صغير اسمه البيت، وسجن أكبر اسمه العادات والتقاليد.. كانت المسكينة مجرد حصالة نقود لأشقائها الذكور.. مودة كانت تطمح بدراسة الجيوفيزياء، ولكن جميع أحلامها تكسرت على صخرة عناد الأسرة.

درست في معهد متوسط خاص، قريب من بيتها، وتحصلت على شهادة في الإدارة، ثم أجبرت على العمل كموظفة إدارية بالمدرسة المجاورة.. وكلما غابت مدرسة الجغرافيا كانت مودة تتدخل لحل المشكلة.

في المساء كانت تعمل على صناعة الحلويات لبيعها لصالات الأفراح.. هذا هو روتينها اليومي الذي انصهرت فيه، وأفنت فيه شبابها.. المرة الوحيدة التي ابتسم لها فيها الحظ، وقصد الخطاب بيتها كانت في الخريف الماضي، أخذ أحد الخطاب رقمها من شقيقته لسماع رأيها.. ولكنه صرف النظر لأن اسمها في كاشف الأرقام كان مودة طلبيات !!

(2)

عندما وصلت سن البلوغ.. قادتني فطرتي إلى إصدار صوت يشبه الزمجرة، ورش رذاذ على بعض مكونات البيت.. هذا هو نداؤنا البيولوجي للإناث الراغبات في التزاوج.. ظن سند شقيق مودة أنني صرت اتبول على مشتملات المنزل.. رغم أنني لا أعود لرش الرذاذ على المكان ذاته طالما رائحته ما زالت موجودة.

بعد أسبوع من بلوغي.. وبمجرد خروج مودة لعملها بالمدرسة، أخذني سند إلى شارع الرشيد، وألقى بي عند أول بائع قابله في سوق الحوت.. حتى أنه لم يطلب أي مقابل.. أخبرني في السيارة أن مودة لم تعد ترغب في، وأنها ستتبنى قطة أنثى.

المحل كان مليئًا بالعصافير، والقطط، والكلاب الصغيرة.. أمضيت ليلتي الأولى في قفص صغير، دون أن أكلم أحدًا.. كان المكان عفنًا، شديد البرودة.. أمضيت الليل أفكر في أمي التي ربتني، وعلمتني، وكانت هي عالمي الوحيد.

لا أدري ما إذا كان سند قد قال الحقيقة أم أنه كان يكذب كعادته.

في المحل تعرفت إلى سندس.. كانت خلال الليل تتلوي بشكل غريب، وكأن بها مس من الجن، ثم تصدر أحيانًا أصواتًا مخيفة.. ظننت في البداية أنها مريضة، أو أن المكان لم يعجبها.. فهي وافدة جديدة مثلي.. ولكن الخبير لانسر.. وهو قط بلدي من أم سيامية أخبرني أنها ترغب في التزاوج.. لماذا يخبرني لانسر بذلك؟ لماذا يفوت فرصة الاقتران بقطة جميلة مثل سندس !!

قبل أن أباغته بالسؤال تطوع هو بالإجابة:

  • لقد اقترنت بالقطة كميلة.. هي قطة محلية.. تقيم خارج المحل ليلاً.. وتعود إليه في الصباح.

أضاف لانسر أنه يريد أن يحافظ على جينات أسلافه المحلية.. فالقطط البلدية أكثر وفاءً وحنانًا.. يقولها هكذا دون مراعاة لمشاعر القطط الأخرى.. يا له من قط بلدي مغرور !!

في العادة القطط لا تكذب، ولكن على ما يبدو أنني كنت أمام كذّاب أشر.. فالذكر على عكس الأنثى، التي تفقد رغبتها إلى الموسم التالي في حال تزاوجت، أي بعد أربعة أو خمسة أشهر.. أما نحن الذكور فتتضاعف رغبتنا من شهر أكتوبر حتى ديسمبر، ولنا القدرة على الاقتران مع أكثر من قطة.. هذا ما تعلمته لاحقًا.

سعدت كثيرًا بأن جميع من ألتقيهم في الشارع ينادونني باسمي، لا أدري كيف أصبحت مشهورًا إلى هذا الحد.. منذ أن غادرت عالمي الثاني في سوق الحوت، ودخلت إلى عالمي الثالث.. حيث لا حدود ولا قيود.. قمت بكل ما حرمت منه في بيت أمي مودة.. نمت فوق الأشجار، وتحت السيارات.. رافقت الصيادين البسطاء الكرماء على كرنيش طرابلس.. تعرفت على كثير من الطرابلسيات الطيبات.. كنت أرى فيهم مودة التي ربتني، وعلمتني.. خصوصًا أمل التي عادة ما كنت التقيها في “كافي دي روما”.. رغم ابتسامتها الدائمة إلا أنني اكتشفت فيها حزنًا واضحًا، عادة ما كانت تكفّنه بابتسامة عريضة.. كانت أمل آخر أمل لي في التبني.. كنا نلتقي يوميًا في ذات المقهى، وكانت الوحيدة التي تحب ملاطفتي، فيما يتأفف الباقون مني.. فهذه هي حياة قطط الشوارع.. ينادونك.. يلاطفونك.. وبعد أن يدفعوا ثمن قهوتهم، يمضون إلى حال سبيلهم.

(3)

أخبرني لانسر، أن كميلة قد ماتت في ميناء الشعاب، بسبب تناولها لسمكة تم اصطيادها بدواء مكافحة الآفات الزراعية، يخلطه بعض الصيادين مع الخبز لاصطياد أسراب السردين.. كميلة لم تنتظر حتى يقوم الصياد بنزع أحشاء السمك.. التقطت واحدة والتهمتها على الفور.. لأن لديها ستة جراء في انتظار الحليب.. سألني بحزن إذا ما كنت أعرف قطة فقدت صغارها.. ولديها فائض من الحليب !!

يا الله.. كم أنت وفي يا لانسر.. فلا أحد في هذا العالم يسأل عمن يموت.. أو عمن بحاجة لكفيل !!

يبدو أنها الحقيقة.. القطط البلدية أكثر وفاءً.

موت كميلة زاد من رغبتي في البحث عن بيتي الأول، حيث أمي مودة.. وحيث عالمي الصغير، ولكنه عالم آمن.

    مع مرور الوقت أصبحت متآلفًا مع حياتي الجديدة.. خصوصًا بعد أن تعرفت على القط الحكيم مرزوق.. قط ضخم، فقد إحدى عينيه في معركة مع أحد عمال المناولة بميناء الشعاب.. جاء صغيرًا في “لانشة” إحدى سفن نقل البضائع القادمة من جنوب إيطاليا.. وأمضى في المدينة القديمة وحدها 15 سنة.. لا أحد يعرف عمره الحقيقي، ولكن على الأرجح لم يصل قط لهذا العمر في طرابلس كلها.

هو مزيج بين الحكمة والصعلكة.. لا يعترف بالقيود، ولا ضفاف لخياله.. ولكنه أيضًا أفضل من يحسب للعواقب ألف حساب.

علمني أن الوفرة تقلل القيمة.. وأن للقطط أدوار نبيلة لا يجب أن تتخلى عنها.. العيش في كنف عائلة قد يكون منتهى ما تطمح له العصافير الملونة

.. أما بالنسبة للقطط، فلها أهداف سامية.. لولا القطط لامتلأ العالم بالفئران والأوبئة.

عليك أن تختر اسمك.. عليك أن تختر المكان الذي تعيش فيه.. عليك حتى أن تختار عائلتك.. فالبشر وحدهم من لا يمكنهم اختيار أسمائهم.. وعائلاتهم.

كانت هذه آخر كلمات العم مرزوق.

ومنذ ذلك الحين اخترت اسمي.. واخترت عائلتي.. واخترت المكان الذي سأعيش فيه.. اسمي منذ هذا اليوم مرزوق الثاني.

طرابلس 02 نوفمبر 2021


هامش:

جميع القطط المذكورة في القصة حقيقية، وقد تم اقتباس القصة مما تحصلت عليه من روايات شفهية، من الأصدقاء: محمد حمدي (مخرج تلفزيوني من الشقيقة مصر، يقيم في طرابلس)، تامر منير (صحفي من مدينة طرابلس، يقيم في مدينة الزاوية)، الصديق القانقا (ضابط في سلاح البحرية الليبية، وقد روى لي عن القط المهاجر من إيطاليا، الذي اخترت له اسم مرزوق).

مقالات ذات علاقة

نزلة برد حادّة

مفتاح العماري

أبي في السماء.. أمي في كل مكان

حسام الدين الثني

الرضوخ من جديد

فيروز العوكلي

اترك تعليق