طيوب الفيسبوك

وجوه

من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري
من أعمال التشكيلية نجلاء الشفتري

عادة ما يكون للمرء وجوه عديدة، وجه يليق بما يلقى من وجوه. فهذا وجه للأسرة، وآخر للأصدقاء، وثالث للزملاء، ورابع للجيران، والقائمة تطول. هذا لا يعني، من منظور علم الاجتماع، سوى أن المرء يقوم بأدوار اجتماعية متعددة. لكن التعددية في الوجوه لا تقتصر على الشرائح الاجتماعية بل تطال أفراد كل شريحة منها. الوجه الذي يتعامل به المرء مع رئيسه في العمل ليس الوجه الذي يقابل به مرؤوسيه، وأسلوبه في الاستجابة لما يقوم به طلابه قد يختلف باختلافهم. هناك أيضا بعد فلسفي يرتبط بهذا الصنف من التعددية.

هل التعدد في الوجوه أم أن للإنسان وجها واحدا وأقنعة متعددة؟ بوذا ينكر تعدد الأقنعة لأنه ينكر أصلا وجود الوجوه. النفس البشرية، التي قد نفترض أنها الوجه الحقيقي لما نرتدي من أقنعة، تمر بأحوال لا تبقيها على حال يمكّن من القبض عليها، ولذا فإننا لا نعرف أن لكل منا وجها يخصه، بصرف النظر عما يحسب أنه يرتدي من أقنعة يغطي بها هذا الوجه. ديفيد هيوم، من بعد بوذا، حاول البحث عن ذاته، عن وجهه الحقيقي، فلم يستطع أن يمسك بشيء سوى انطباعات حسية وأحوال وجدانية عابرة وزائلة. أما جون لوك فلم يجد سوى الذاكرة سبيلا لتحديد الأنا، فأنا منذ أعوام هو أنا الآن لمجرد أن لدينا ذكريات مشتركة، وهذا ما يجعل من يفقد الذاكرة يفقد هويته معها. وفق هؤلاء، هذه الأنا التي تقلق كل واحد منا، وتجعله يمضي حياته في الذود عنها، مجرد سراب، فهي كينونة لا وجود لها أصلا، وهي في أفضل الأحوال كينونة لا نعرف شيئا عما تخبئ من أسرار، وهذا هو مذهب سيغموند فرويد الذي يرى أن اللاوعي، أو النفس الخفية، هي الذات الحقيقية التي تتلاعب بنا دون أن ندري عنها شيئا.

وفق هؤلاء، ليس لدى أي منا وجه حقيقي يُلبسه أقنعة زائفة تليق بمن يلقى، بل هناك فحسب مشاعر وعواطف متقلبة تحركها نوازع مشبوهة وتنتاب جسدا واهنا لا يبقى هو نفسه على حال. هذا ما جعل غلبرت رايل يشك في وجاهة السؤال عن الوجوه أو الأنوات. إذا سألت عن الجامعة، عن هويتها، سوف أمرّ بك على إدارتها، وكلياتها، وطلابها، ومكتباتها، ومعاملها، وأحدثك عن أهدافها ولوائحها وأعرافها. فإذا ظللت تتساءل، بعد ما كل ما رأيت وسمعت، عن هوية الجامعة، فإنك تطرح سؤالا لا معنى له. ليس هناك شيء اسمه الجامعة يتجاوز ما رأيت وما سمعت. إذا سألتَ عن هوية النفس، وشرعتُ أحدثك عن أشياء من قبيل القدرة على التفكير والفهم، والقدرة على الانفعال والتعاطف، والقدرة على التنفس والهضم، وعن السبل التي تتمظهر بها هذه القدرات، ثم ظللت تتساءل عن هوية النفس، فأنت لم تفهم ما قلتُ أو لا تفهم ما تقول. هذا عن الذات، التي يفترض أنها الوجه الحقيقي لدى كل منا والتي نحسب أنها أقرب شيء إلينا، بل نحسب أنها ما نكون؛ فماذا عن الآخر، الذي لا نكاد نعرف عنه شيئا سوى ما نصادف من أقنعة؟ ألا ترانا نتغاضى عن هذه الأسئلة المقلقة حين نخوض في حديثنا المرسل عن الهوية وقبول الآخر والمعايير المزدوجة؟ “اعرف نفسك”؛ هكذا ينصحنا سقراط؛ لكن مونتاني يقول “لو عرفت نفسي، لملئت منها رعبا”.

مقالات ذات علاقة

طـيـن

المشرف العام

خروج آمن

عوض الشاعري

والي طرابلس الغرب يقوم بزيارة لناحية جنزور سنة 1953م

محمود الغتمي

اترك تعليق