الطيوب
صدر للأديب والشاعر العراقي المغترب الاب “يوسف جزراوي” مجموعته الشعرية (فِي البَدْءِ كَانَ العِراقُ)، المجموعة صدرت عَنْ الاتحاد العام الكتّاب والادباء العراقيين / فرع ميسان. وتقع المجموعة فِي 236 صفحة مِنْ الحجم الوسط.
قدم للمجموعة الشاعر “القس جوزيف موسى إيليا”، وبدراسة الشاعر والناقد “حامد عبد الحسين حميدي” رئيس اتحاد كتّاب ميسان.
مقدّمة
” في رحلة النّزوح خبّأتُ بلدي في قلبي لئلّا يموت فيّ شيءٌ منه.”
القس جوزيف إيليا
نعم
فإلى هذه الدّرجة الّتي ليس من السّهل قياسها بدقّةٍ ولا وصفها بإتقانٍ يذهب الأب “يوسف جزراوي” في عشقه المضّطرم المتأجّج لوطنه”العراق” الّذي اضطّر مع من اضطّر تحت ضغط ظروفٍ قاسيةٍ غير خافيةٍ عن ذي بصيرةٍ إلى تركه والنّزوح عنه إلى بلادٍ أخرى بعيدةٍ عجزتعلى كلّ ما قدّمته له من ضروب العيش وما منحته إيّاه من وسائل الرّاحة أن تنزع من أرض صدره بساتين عشقه للعراق ولا أن تجعله يميلإلى ما فيها من مفاتنَ وإغراءاتٍ فيعشقها لتكون بديلةً عمّا فقد
وظلّ مثلما كان على حاله :
هذا المتيّم الولهان المغرم بوجه بلده على الرّغم ممّا عرض لهذا الوجه المعشوق من التّشوّه والقباحة والسّقم
فلم يزل يراه أجمل الوجوه وأنقاها وألطفها
ولم يزل يأنف من التّطلّع إلى غيره من الوجوه
آملًا أن تعود يومًا له نضارته ويرجع إليه ما فات من شبابه وما خبا من إشراقه
وأنت إذ تتصفّح ما جاء في أوراقه الّتي احتضنها كتابه هذا لن ترى فيها إلّا ما يجعلك تبكي لبكائه وترثي لواقع حاله وهو الأديب المتخمبالمشاعر والأحاسيس والأفكار الّتي قد لا تلقاها بذات الحجم الّذي فيه تلقاها لدى أصحاب القلم عند غيرهم ممّن بينهم وبين القلم قطيعةٌ أوجفوةٌ
وتتمنّى لو كنت حاضرًا عنده وقريبًا منه لتواسيه كما ينبغي أن تكون المواساة وتشدّ من أزره وتمدّ يدك بحبٍّ إليه في محاولةٍ منك لتشجيعهعلى النّهوض والقيام من جديدٍ
إذ ليس ثمّة جرحٌ أوسع ولا حزنٌ أكبر ولا خسارةٌ أفدح ولا فقدٌ أعظم من أن تترك موطنك وأن يتركك موطنك
ولأنّ سهم ما أصابه في العمق قد أصابني أنا أيضًا بنفس الشّدّة والقّوة فلقد استطعت أن أقرأ بوضوحٍ ما سكبه على الورق وما لم يسكبهأيضًا وأتفهّمه وأن أكتشف من غير جهدٍ ولا عناءٍ كبيرين سرّ المرارة الّتي فيه وأتذوّقه معه في كلّ كلمةٍ مررت عليها بل وربّما في كلّ حرفٍوقعت عليه عيناي
وإنّني لأدعوك كما دعوت نفسي إلى قضاء وقتٍ في حضرة هذا الكتاب
فلا إخالك وقد فرغت من قراءة أسطره والتّعمّق في مضامينه إلّا مستمتعًا بحسن العبارة وجودتها وصدقها ورقّتها متأمّلًا محلّق الرّوحوالفكر وقائلًا مع صاحبه :
“في البدء كان العراق” ويبقى وسيبقى إلى ما شاء الّله تعالى وأراد.
كلّ التّحيّة والتّقدير والثّناء والتّهنئة لأخي الأب الفاضل الأديب “يوسف جزراوي” على نقاء نصوصه هذه
متمنّيًا له ولقرّائه سلامة العيش ودوام العطاء وحسن الختام .
1-7-2021
في البدء كان العراق.. اشتغالات المنفى ومنظومة الذاكرة اليقظة .
حامد عبدالحسين حميدي – ناقد عراقي
(1)
النصُّ المحفّز الذي يوقظُ فينا رغبةَ التأمل والمتابعة ، هو نصٌّ فاعلٌ بامتياز ٍيعتمدُه الشّاعر مِن خلال منظومةِ ارسالياتٍ محدّدةٍ ومتكاملةٍ الرؤى، ثمّ يتلقفها القارئ وبشحناتٍ متتاليةٍ لتكشفَ له فيما بعد عن حُزمة مُترابطة مِنَ التداعياتِ الداخليةِ والخارجيةِ ، فعالمنا الباطنيّ متراكمبجملةٍ من التورطات المتخمة بواقعٍ لا يحتملُ إلا أبعاداً متفاوتة ، ربّما في نهاية الأمر تحرّضُنا على الانفلاتِ أحياناً أو التمسكِ أخرى بماتبقى لنا ، وشتانَ ما بينَ الاثنتينِ ، فللمفردةِ والتركيبِ خطورة أقوى مما يتوقعه الآخرون ، والقارئُ الفاعل يجدُ فيها لذّة ومتعة التقصيّ عن تلكالفضاءات المُزدحمة في ماهيات النصِّ الناطق ولو ضمنياً ، نحنُ هنا سنتعرفُ على شاعرٍ امتلكَ كلَّ الأدواتِ الفنيةِ الناجعةِ ، واتضحتْأمامنا قدرته على تطويعِها وبحسبِ ما يقع نُصْب عينيه ، مِن يومياتٍ متناقضةٍ ، فهو مُدركٌ لكلّ ما يدورُ حوله ، مِن عبثية ضاجّة ، وفوضويةخارجة عن حدودِ المعقول ، مما ولّدتْ لنا مسارات مختلفة ، ذات فِكرٍ صادِم وبعيد كلّ البُعد عما جُبِلنا عليه ، لعلّ(الأب يوسف جزراوي) فينصوصهِ يتحركُ وعلى وفق منظومةٍ داخليةٍ ذات نسقيةِ الشّعور المتجذّر لوطنهِ ، واحساسهِ المُرهف في خلقِ عالمه الخاصّ بعيداً عن وسوسةِالغرباءِ الذين يحاولونَ تمزيقَ صورةِ الوطنِ وتدميرَ معالمهِ الأثريةِ وضياعها :
عن دموع كاهنٍ بغدادي
بكى وطنه حنيناً
على حواف الأرصفة
المُبتلة بدموع الغرباء .. ( آثار دمعة)
ممّا توالدتْ لديه صورٌ أخرى لهم ، فالموتُ والدمارُ وتشظّياتُ الواقع المريرِ ، وفجيعةُ مخلفاتِ الاحتلالِ المقيت ، وتغييرات في ديموغرافيةِالانسانِ العراقيّ ، وهذيانات الدروبِ الحالكةِ ، التي كانتْ وما تزالُ تعجّ بالخرابِ والفسادِ ، بعدما كانَ العراقُ بلداً آمناً مُطمئناً ، خيرُه الوفيريمتدُ الى الشّعوبِ الفقيرةِ المحتاجة ، ليشبعها محبّة وسلاماً ، هذه الصّورةُ الشّعريةُ المحفّزةُ لذهنيةِ القارئ ، تكمنُ فيها استرجاعيةَ ذاكرةٍيقظةٍ :
وكيف أرثي شعباً
كفّه صارت صحناً
لشعوب افتقرتْ وجاعتْ ( نخلة استطالت بها المنايا).
ثمّ تتنفّسُ لديه رئتا الصّبر بأيقونةِ الانتظار، وهو يداعبُ أمله علَّ بارقةً منها تطفئ ذلك الهوسُ الرافدينيّ والعشقُ الممزوج بنكهة الفنجانِ الذيتفوحُ منه رائحةُ القهوةِ :
فالانتظار سيجلس
على مقعد بقربك
يثرثر كثيراً ببلادة
وينتظر بفارغ الصبر
مكاملة من وطن
يدعى الانتظار !! ( قارئة الفنجان).
(2)
غلبتْ على أسلوبيةِ نصوصِ (الأب يوسف جزراوي) مسحةُ الصّور الدينيةِ والاقتباساتِ والتضمينات مِن الكتبِ السّماوية المنزّلة والحكموالأمثال والطقوس الشعبية المشهورة ، لِما يمتلكُه مِن تطلعاتٍ ثقافيةٍ ودينيةٍ عاليةٍ ، وقيمةٍ انسانيةٍ رفيعةٍ ولما يحملُ بينَ خافقيه مِن هدفٍ نبيلجعلَ مِن نصوصهِ ، مُرسلات ذات طابع انساني لا تشوبه شائبة ، فصوتُ التسامح والمحبّة والسلام ، وتوحيد الرّؤى ونبذ الفرقة والتناحروالبغضاء كانتْ أبرزُ ما حملته نصوصُه ، ودعتْ إليه ونطقتْ بمفهومات كبيرة ، لتكونَ مِحوراً مهمّاً في تقريبِ مفهوماتِ الرّسالات السّماويةوبما تضمنته مِن مبادئ عليا ضِمن خطابياتِ ( النداء والاستفهام ) :
وبصمتٍ عاتب السماء
ربّاه
ما هذا الشقاء ؟
لا تغفر لهم
لأنهم يعلمون ما يفعلون .. ( لقد مات أعزل)
لتهيمنَ على نصوصهِ النّزعةَ الرّوحيةَ الطافحةَ بكلّ كمالياتِ الذّات المسالمةِ ، والجوّ الهادئ الذي تنسجمُ فيه طقوسٌ ذاتَ منحىً تراتيليّ ،لتتعالى الأصواتُ هاتفةً ، أنّ الحياةَ لعمل الإنسان الحرّ الخالد ، لمَنْ يوقدُ شمعة لينيرَ بها طريقَ الآخرينَ ، كما نجدُ ميولَه الى استخدام ماتداولَ على ألسنةِ الناسِ واشتهر ، ومنها :
وقلت لنفسي :
كذب المنجمون ولو صدقوا
لكن على ما يبدو
أنها صدقت في كذبتها !! ( قارئة الفنجان)
فعبارة ( كذب المنجمونَ ولو صدقوا ) مقولة متداولة ومشهورة ، وكذا استخدامه (اتقِ شرّ مَن أحسنت أليه !!) ، في قوله :
لئلا تردّد مع القائلين :
اتقِ شرّ من أحسنت إليه !! ( قارئة الفنجان)
في أغلبِ نصوصهِ ، نجدُه يحاكي لغةَ القرآنِ الكريم مُقتبساً قوله تعالى : ليس على الأعمى من حرج ) في قوله :
وليس على المغترب
حرج في ذلك!! ( قارئة الفنجان )
كما نجدُ في أسلوبهِ ثورةً عارمةً لا يمكنه أنْ يخفيها بل يطلقَ لها العنان مع تصاعدِ غلواء الرّوح المتأججة الثائرة، وهو يعاني من غربتهِوابتعادِه عن موطنهِ الأصليّ ليكونَ رهينَ منفى و حلمٍ لا حدَّ له :
احذري أن تقتفي أثر مهاجر
منحه الاغتراب جنسيتين
في وقت يأبى ساسة وطنه
منحه أمان الإقامة !! ( احذري ) .
فمعالمُ صورته الحقيقية التي تظهرُ لنا جلياً بينَ نصوصهِ هنا وهناك ، فيها إيمانٌ مطلقٌ بالفكرِ الهادفِ غير الملوث بالمظاهر الدنيوية الزائلةحيثُ شخصيته المتحرّرة والمنسجمة مُجتمعياً مع كلّ المكوناتِ :
لي فكر يختلف
ينبذ التخلف والتعصب
لا يمتّ الى العنصرية بصلة
ولا يستهويني التخوين
إذ لست من هواة
تمزيق الصورة الاجتماعية للآخرين . ( احذري ).
(3)
القارئُ سيجدُ في هذه المجموعةِ الشعريةِ ، علائقيةُ الشاعرِ بالوطنِ ونخيله وكلّ ما طرأ عليه من حوادثٍ جمّة ، رغبةً منه في عدم الانسلاخ عنه، لأنّه ابن بارّ يعي ما يدور خلفَ الكواليس من مؤامراتٍ كبيرة ، تحاولُ من خلاله القوى الخارجية الاطاحة به ، وزّجه في دهاليز الظلمة الأبدية، مما جعله متعلّقاً بكلّ حدثٍ صغيرٍ أو كبيرٍ مترقّب ليرى أنّ روحَه عالقةٌ هناك :
وعلام التعلّق بعراقيّ
عيناه كشاشة تلفاز
تبث أحزان العراق .. ( أحذري )
كما نلحظُ النفسَ الشعريّ الطويل الذي يحظى به (الأب جزراوي) لتمتدَ قصائدُه ضمنَ فضاءاتٍ شاسعةٍ من الأسطر ، تتحرّك بحريةٍ تامّةٍ ،وبأسلوب ذي منحى منبسط سلس فلا تعقيدَ ولا نبو ، بل فيه كتلة من التناغمات المترابطة ، هذا الأمر ربّما يعودُ لكونهِ رجل دين واعٍ ، اعتادَعلى تلاوة الصلوات التي طالما تبركنا بسماعها ليجسّ مكامن الوجع والحزن في قلوبنا ، ليضمدَها بالغفرانِ والابتهالِ الى اللهِ تعالى ليمسحَعنّا كلّ الذنوبِ …