لم نختار هذه الحياة ولدنا وجدنا أنفسنا فيها!
في بيت من الصفيح بين أزقة ضيقة، وشوارع مليئة بالطين، والعفن والروائح الكريهة، أنا وأختي لم نختر والدنا قط، فقد كان يأتي مخمورا كل ليلة يترنح يمينا، وشمالا ويتخبط هنا وهناك حد الثمالة، كانت ليالينا مظلمة حين يأتي ثملا لا يرى شيئاً، وينهال علينا ضرباً حتى ننام من شدة البكاء.
تغيرت حياتنا منذ رحيل أمي.. كنا ندرس في المدرسة رغم عيشنا هنا، كانت أمي تكّد كل يوم من أجلنا كانت تقول:
– يجب أن تدرس يا عثمان وتصبح مهندساً..
– يجب أن نأكل الخبز والطماطم حتى تصبح فاطمه طبيبة..
كانت تخيط ثوبها المرقع حتى تكسينا، تتحمل أسى هذه الحياة لأجلنا وتقول ستفرج لا تقلقوا إن الذي خلقنا لن ينسانا.
عندما يأتي والدي مخمورا، تخبرنا أنه كان رجلا سويًا قبل أن يطُرد من عمله، ويفقد إحدى عينيه، لم يعد كما كان وتدهورت حالته في الآونة الأخيرة.
كان تقص علينا محاسنه حتى ننام وننسى مساوئه، كنا نتوسد ركبتيها حتى بتنا نتوسد الأرض القاسية والباردة، لم نشعر ببرد الصفيح إلا عند فقدانها.
مرت الأيام وكنت أبحث عن عمل حتى أستطع العودة لدراستي وإعادة فاطمه وبعد عناء البحث في دولة يمنع فيها الطفل من العمل ولا يعرف مسؤوليها ما أحوجه إليه، استطعت أن أقنع العم سعيد صاحب المقهى في السوق أن أنظف بعد رحيل الزبائن رأف بحالي فهو يعرف والدتي وحلمها الذي كان متعلق بنا، كنت أدرس في الصباح وأنام بعد الظهيرة وأنظف طوال الليل. حين اشتد عودي ودخلت الثانوية لم أستطع ترك فاطمه ساعات طويلة بمفردها فحتى تواجد أبي لا يعني شيئا آنذاك أمام المتسكعين ليلا في ذلك المخيم.
كانت تتجول معي حين أبيع بعض الزهور وأحيانا أجمع بعض الغلات من المزارع لأبيعها في السوق حتى استطعنا إيجاد عمل في أحد الفنادق معا لتكون تحت عيناي ويطمئن قلبي.
عدنا ذات صباح إلى المنزل و لم نجد أبي نائما كعادته فاعتقدنا أنه قد نام ثملا في أحد الشوارع أو على الأرصفة أو في احد الأماكن المهجورة كعادته ولكن اختفاءه لصباح اليوم التالي جعلنا نخرج بحثا عنه وإخبار الشرطة.
جلسنا بالساعات في المستشفيات بحثا عنه ولم نجده وكأنه اختفى تماما وانشقت الأرض وابتلعته. يأست فاطمه وأخبرتني ربما هرب خارج البلاد أو ذهب إلى أحد المدن فهو لا يأبه لنا وبعد مدة قررنا استئجار بيت صغير حتى استطيع تركها بمفردها ليلا حين اذهب للعمل. تجادلت معي كثيرا حتى لا تترك العمل لكنني أصررت على ذلك لان كلية الطب تحتاج تفرغا تاماً.
كنت أريد تحقيق رغبة أمي حتى وان كان على حساب نفسي وصحتي ودراستي كانت فاطمه الأهم بالنسبة لي، لم استطع نسيان أمي وهي تزيل اللحاف من على جسدها لتقينا برد الشتاء القارس، لم أنس حين طردنا أبي ذات ليلة ولم نجد شيئا نأكله، كانت فاطمه تبكي من شدة الجوع، فطرقت أمي على أحد أبواب المنازل وطلبت من السيدة أن تعطينا خبزاً وماء وأخبرتها أنها يمكنها في الصباح أن تأتي لتنظيف منزلها بالمقابل.
كانت عزيزة نفس رحيمة قلب بعد أن أسكتت جوع فاطمة، مرت قطة بجانبنا وبدأت بالمواء فبللت قطعة الخبز بالماء وأطعمتها إياها مع إنها لم تأكل شيئا طيلة نهار ذلك اليوم، وحتى بعد رحيلها طردنا عدة مرات نمنا على الأرصفة في محطات المترو وبين مقاعد الحدائق العامة حتى ايقظنا ذات ليلة رجلا وهو يسأل:
– لما أنتما هنا يا صغار.. أين أبويكما؟
فقالت فاطمه: إنهما في السماء!
فأدمعت عينا الرجل وأخبرنا أنها ستمطر هيا انهضا يمكنكما المبيت عندي الليلة فبيتي قريب من هنا ورأيتكما من نافذتي، نظرت لي فاطمه وانهمرت دموعها، فقلت له :
– أشكرك يا عم.. نحن بخير سنبحث عن مكان يقينا من المطر.. أمي كانت توصينا دائما أن لا نذهب مع الغرباء.. جزاك الله عنا ألف خير.. فرب العباد الذي خلقنا لن ينسانا .
فقال: ونعم بالله يا بني رحمها الله.
وأصر على أن ننتظره قليلا حتى يأتي، فدخل لبيته مسرعاً ثم عاد بعد دقائق بمعطفين ومظلة وقال:
– النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قبل الهدية، وهذان المعطفان لكما أرجو أن تقبلوهما.
نظرت إلى فاطمه وكانت ترتجف بردا وأنذرت السماء بصوت الرعد تحضيرا لهطول المطر، فتقدم الرجل نحوي وقال:
– يا بني أنتما في عمر أولادي، لم تقبل ضيافتي هذه الليلة، فاقبل هذه الهدية من أجل أختك.
شكرته كثيراً وقلت: لن ننسى لك هذا يا عم.. يوما ما سنرد لك الهدية.
فهز رأسه موافقا وقال: سأكون في انتظاركما.
بعد مرور عدة أشهر على اختفاء والدي استدعتنا الشرطة للتعرف على جثة وجدت في البحيرة فكان أبي راحلا عن الحياة بلا ملامح كما اختار أن يكون إلا ملامح خاتم زواجه الذي كان يحمل اسم والدتي (سارة) .
مرت السنوات حاربنا من أجل أن نحقق حلم أمي تحدينا الظروف واجتزنا الصعاب بكل ما أوتينا من قوة عندما نفشل كنا نتذكر كلمات أمي وحين نقترب خطوة من الهدف نشكر الله. أصبحت مهندسا مشهورا ارسم بيوتا تأوي الناس تقيهم برد الشتاء، مدارسا للتعليم دور للرعاية لتحمي المستضعفين.
واليوم أختي الطبيبة فاطمه تفتح أول مشفى لعلاج الأطفال المشردين والأيتام بالمجان بالتعاون مع مركز الرعاية الخاص بتلك الفئة الذي يتبع مؤسسة سارة الخيرية التي أديرها. بعد الاحتفال قررت اختطاف فاطمه جانبا وقلت:
– ألم يحن الوقت بعد؟
فضحكت وقالت:
– نعم، حان الوقت سأجلب بعض الأوراق وألحق بك.
في الطريق تحدتنا عن ذكرياتنا وكم ركضنا في هذه الشوارع كنا نمرح وكأنه لنا بيت نعود له نستمتع بلعب الشارع كباقي الأطفال ضحكنا كثيرا، ثم بكت فاطمه وأمسكت بيدي قائله:
– لن أنسى انك كنت ضلعي الثابت وأنيسي في هذه الحياة لم تتركني يوما تضحياتك لأجلي سأقصها على أطفالك يوما ما ليعلموا كم أنت أب عظيم منذ زمن.
– أنتِ شاعرية جدا يا فاطمه لم تتغيري أبداً.
وصلنا إلى قهوة العم سعيد الذي وافق على عملي حين كنت أحتاج ولكن كانت قد أقفلت قررنا البحث عن بيته وعلمنا انه رحل منذ عامان عن هذه الحياة، قررنا تبليغ ابنه انه في مشفى الأطفال يوجد جناح باسمه كصدقة جارية له وقصصنا له كيف ساعدنا منذ زمن. وفي المحطة التالية قررنا الوقوف عند بيت العم كمال، فما إن فتح الباب حتى ظهر رجل هرم قد أثقل الزمن كاهله، فلم يعرفنا من الوهلة الاولى، قال:
– أهلا من أنتما يا أبنائي.
فقلنا نحن جئنا لرد الهدية يا عم نعتذر إن أطلنا القدوم، فنظر لنا مطولا ثم قال:
– منذ أن مللت انتظار أولادي وأنا انتظركما أصبحت شابا وسيما يا عثمان، ماهذا الجمال يا صغيرتي فاطمة؟
احتضننا بكل حب ثم دعانا لشرب الشاي والتحدث عن انه وحيد منذ أن تركه أولاده وهاجروا، فقررنا إسعاده بالحديث عن هديتنا له، قسم علاج الأورام بالمجان في مشفانا صدقة جارية له فبكى كثيرا ثم شكرنا وقال:
– لا تطيلوا الغياب سأنتظركما مجددا!
وما إن خرجنا قررنا ختم الزيارات بقبر أمي لنهديها هذه النجاحات.