الحاج مفتاح ليس لديه شغل ولا مشغلة، وبعد أن صار مصدر إزعاج لجميع الأبناء والأحفاد، وكثرت شكواهم منه لدى السلطة الأعلى في البيت زوجته من زمااااان؛ الحاجة مبروكة.
وبما أنه لا يفل الحديد إلا الأحدُّ منه، وبما أنها الأكثر خبرة في كيفية تطبيبه؛ بحكم الخمسة عقود التي قضتها معه تحت عقد واحد لم يتضمن تاريخ الانتهاء، فقد استطاعت مبروكة وبمجهود لا يُذكر أن تجعله يقضي جُلَّ يومه على مصطبة الجامع، ليس رغبة في الله ورهبة من عقابه، وإنما رهبة من مبروكة ورغبة في الابتعاد عنها!.
ما علينا.. فهذه أمورٌ عائلية لا يحق لنا التدخل فيها..
الحاج مفتاح ينهض إلى الصلاة متثاقلاً، وهو لا يُخفي تذمره من الإمام عندما يُطيل بهم الصلاة، محتجاً بقائمة من الأمراض تبدأ من الشقيقة مروراً بالفتق ولا تنتهي عند آلام الركبة، مع أنه أصحُّ من المصطبة التي يجلس عليها، والتي تستهويه أكثر من المسجد نفسه، لأنه أصلاً لم يأتِ إلى الجامع إلا لاجئاً من سلاطة لسان مبروكة، وبيت الله لا يطرد أحداً!.
وذات يوم افتتح الإمام سورة (ق) في الركعة الأولى من صلاة المغرب، وبما أن الحاج مفتاح لم يقرأ القرآن في حياته فقد ظن أن اسم السورة القصير المكون من حرفٍ واحد دليل على قصر السورة نفسها، وعندما كان الإمام يهم بالخروج من المسجد إلتفت إليه الحاج مفتاح وقال له: “وخيرها الكوثر.. شن ناقصها”؟!
لكن الإمام لم يُجبه!.
أيضاً ما علينا.. فهذا بينه وبين خالقه لا يحق لنا التدخل فيه..
يجلس الحاج مفتاح على المصطبة واضعاً رجله اليمنى على المصطبة ورجله الأخرى على الأرض، يرتدي شبشباً قديماً تعرض لعمليات ترقيع وتجميل أكثر مما تعرضت له فنانة عربية تستدبر شبابها، تتدلى تكة سرواله وفي طرفها عدة مفاتيح للدلالة على الأهمية، رغم أن الجميع يعلم أن المفاتيح الأهم لم ولن تخرج من قبضة مبروكة!.
وهذه أيضاً أمور شخصية لا يحق لنا التدخل فيها..
ما يُلفت الانتباه في الحاج مفتاح أنه محور الانتباه عندما يكون حاضراً، ومحور الحديث عندما يكون غائباً، فالجميع يُنصت له في وجهه، والجميع يغتابه في قفاه!
الحاج مفتاح يتحدث في كل شيء؛ في الطب والزراعة والقانون والهندسة والجغرافيا وعلم الفلك والتنجيم والسياسة وحتى في العلاج بالإبر الصينية، وهذه الأخيرة كلما تحدث عنها شمَّر كمَّه ليُظهر وشماً قديماً على شكل صليب، أو كما يُسميه هو: “قاطع ومقطوع”!.
لكن حديثه مؤخراً كان مركَّزاً وبشكل خاص على الانتخابات الأمريكية؛ متحدثاً بإسهاب عن كل مترشح، متنبأً بفوز أحدهما، وفي اليوم التالي يتنبأ بفوز المترشح الآخر معتمداً في ذلك على الذاكرة الضعيفة للسامعين، فهو يعرف بفطرته أن الشعوب لا ذاكرة لها!.
وفي كل مرة يؤكد فيها توقعاته بفوز أحد المترشحين كان يحلف بالطلاق؛ ليس لأجل تأكيد كلامه، بل أملاً في الخلاص من مبروكة، وإذا جادله أحدهم فإنه يُسارع إلى مد يده طلباً للمراهنة؛ قائلاً: “خروف بخروف”، وبما أنه يُدرك عموم حالة الإفلاس، وغياب السيولة ليس من جيوب الناس فحسب، بل ومن خزائن البنوك أيضاً؛ فإنه يعلم يقيناً أن لا أحد يجرؤ على المراهنة!.
وفي أحد الجدالات قال له أحد الشباب: يا عمي مفتاح إحنا شن دخلنا في الامريكان، غير نصلحوا حالنا؟!
فما كان من الحاج مفتاح إلا أن عدَّل من جلسته ثم قال له: يا أهبل؛ الميركان هم سبب البلا اللي احنا فيه. ثم أمسك تكة سرواله وسحب يده على طول التكة إلى أن وصل إلى مجموعة المفاتيح ورفعها في وجه الشاب وقال: المفاتيح كلهن في يد الامريكان، انت شن في يدك يا هُفك!.
لا أحد يصمد في جدالٍ أمام الحاج مفتاح إلا مبروكة، هو يعلم ذلك جيداً، ومبروكة تعلم ذلك جيداً، والجميع يعلم ذلك جيداً، لكن الذي جعل الحاج مفتاح ينتصر في كل جدالاته التي خاضها على مصطبة الجامع ليس جهل الآخرين به، وليس احترام الأخرين له، وليس خوف الآخرين منه، وإنما فقط… غياب مبروكة!.