قراءة في قصة (توجس) للقاص الليبي فتحي نصيب
د. محمد سيد الدمشاوي (مصر)
قصة (توجس) للقاص الليبي فتحي نصيب هي واحدة من تلك القصص التي لا تنتهي بقراءتها، وإنما تبدأ علاقتك الحقيقية بها بعد الانتهاء من القراءة، وما تخلفه في نفسك من أثر وما تستدعيه لعقلك من أفكار.
تبدأ القصة بعنوان كاشف لمضمون الحكاية، فاضح لمحتواها، وملخص لأحداثها: توجس لينتقل منه الكاتب إلى استهلال يبدو في ظاهره، ومن الوهلة الأولى استهلالا كلاسيكيا قديما، غير عابئ بالواقع السردي الجديد، إلا أنه يحمل في نهايته تغيرا مفاجئا، حين يحيل إلى حالة الشرخ العميق الذي حصل في حياة ذلك الكلاسيكي الهادئ المطمئن:
“كنت سائرا في أمان، الله سارحا في ملكوته، إلى أن اصطدم بكتفي برجل أصلع يرتدي نظارة سوداء…”
وهنا تدخل لغة السرد مرحلة مغايرة تماما عن بدايتها، وكأن الكاتب أراد قاصدا هذه البداية التقليدية ليعلن عن طيبة هذا الرجل وسذاجته قبل هذا الحدث المفاجئ، فلم يكن مدركا لما تم من تغير في طبيعة الحياة، ونمط الوجود العبثي الذي أصاب عقل المجتمع، وأخل بمعاييره القديمة الآمنة.
ومن ثم ينتقل السرد إلى طور جديد من استكناه ذلك الواقع العبثي، وتجسيد حالة الخوف والترقب التي أخذت تعصف بحياته، وتنحو بها إلى الخضوع لمعطيات الواقع الجديد الذي لم يألفه بعد.
ذلك الواقع الذي يفرض حالة التشيوء قهرا على بطل القصة / الراوي السارد، ليلقي به في ركن قصي بعيد عن الفاعلية / الوجود / الذات، متحسبا لكل ما هو آت، بل يدفعه دفعا إلى أن يلتصق بالجدار ويمنحه نفسه تماهيا فيه، واغترابا عن ذاته الضائعة بفعل هذا الواقع الجديد:
“منحت ظهري للجدار وهي عادة متأصلة في آخر نفق في أعماق اللاوعي “، والتي يلح عليها ذلك الراوي / السارد / المتوجس:
” جلست كالمعتاد موليا ظهري إلى الجدار “
ليؤكد على هذه الحقيقة التي لم يعد معها شك ولا ريبة.
ثم يتجه السرد إلى مرحلة موازية، لينقل حالة الزيف الطاغية على المجتمع، وينتقي لها منظومة الزيف الإعلامي القائمة على تضليل المواطن، وعلى صناعة الوهم والكذب والتدجيل، بحيث يصبح القائد أو الرئيس عبر هذه الصحف الكاذبة هو سيد العالم كله، وهو محط أنظار الجميع، وهو ملك الملوك، ورئيس الرؤساء، والخبير العالمي لكل القضايا، والمرجع الرئيس لكل شيء:
“…تجمع على أن رؤساء وملوك العالم كلهم لا شغل لهم سوى مخاطبته وطلب مشورته والاستعانة بحكمته لحل مشاكل بلدانهم الداخلية والخارجية “
وهنا يبدو الكاتب متأثر بما كان يجري في ليبيا من تهويل لصورة القائد، وبكثير من الأساطير التي صنعها الإعلام الليبي لتضخيم هذه الصورة، وهي حالة مصاحبة للديكتاتوريات بشكل عام، وليست قاصرة على ليبيا وحدها، بل كانت موجودة بقوة في مصر عبر عهود مضت.
وكأن الراوي / السارد / المبئر هنا يسوغ لحالة التوجس والقلق المهيمنة، التي أحالت الحياة إلى جحيم، وأصبح لا شغل له سوى تتبع ذلك الزائر غير المرحب به، وهذا المجهول الغامض / النظارة السوداء / الذي يدمر مساحة الأمان التي كان يرتع فيها إبان عهده القديم، وماضيه الآمن.
ويظل هذا طريق السرد، ومنهج السارد إلى أن تفاجئنا جملة الخاتمة المباغتة بحدث جديد يقلب الأحداث رأسا على عقب، ويحيل مسار الحكي إلى طريق مضاد، هادما لهذا الوهم الكبير الذي صنعه خيال الراوي وتبئيره، لتتجه القراءة إلى منظور جديد، ورؤية مغايرة، تكشف أن الجميع يتوجس خيفة من الجميع، وأن الخوف والترقب أصبح وباء عاما يصيب المجتمع كله. وليس بطل القصة فحسب.
والقصة تأتي في إطار أدب العبث واللامعقول، وهي تنتمي لذلك التيار الكبير الذي سيطر على الكتابة الليبية في السنوات الأخيرة، بسبب القمع السياسي، والتضييق على الكتاب.
ولعل ما يؤخذ على القصة رغم جودتها الفائقة، عدم مجاراة لغة السرد لطبيعة الموقف في بعض الأحيان كما في قوله في أحد المقاطع على لسان الراوي السارد/ بطل القصة:
” قررت صباح اليوم التالي أن أغير المقهى، فاخترت…..”
حيث تأتي كلمة ” قررت ” وكلمة ” اخترت ” هنا في غير محلهما، وذلك لمخالفتهما لطبيعة الموقف الذي تمر به الشخصية من الضعف وفقدان الذات والتشيؤ بما لا يسمح له بالقدرة على أخذ القرارات أو الاختيار، فضلا عن افتقاد القصة لعنصر التكثيف في أحد المقاطع السردية؛ حيث يلجأ الكاتب إلى الدخول في كثير من التفصيلات التي لا تتناسب مع طبيعة القصة القصيرة ومحدودية مساحتها الزمانية والمكانية، لكن ذلك لا ينال من جمال القصة، ومن جودتها الفائقة التي أشرنا إليها سلفا.