قراءة في قصيدة ” سقف الليل ” للشاعر مفتاح العماري
دكتور سامي البدري (العراق)*
حقل اشتغالات الشعر يستنفر أدواته، مصقولة وغير مصقولة، لرصف تهجيات مورطة: بداءات، قراءات، تحرشات بقاع بحيرة السكون… وكثير من ألم الليل.
وهو – الشعر – وساطة جدلية بيننا وبين نزوعاتنا، وبين نزوعاتنا وقدر إحلالاتها، وبين إحلالاتها وصقيع الحقول التي تخنق مديات تطلعاتنا.
الشعر بحث عن سقوف وجدلياتها، وعن لغة تحاجج صقيع أسيجة الانتظار… ولكن من دون سقف الليل لأنه نحر منبلج ومن دون استحقاقات!
سقف الليل وصية والشعر ضد الوصايا وضد لغة الجدران وشعاراتها.. الشعر وقوف في عراء الصقيع على ساق واحدة بكل اللغات المنفية… ومنها يتشكل سقف لليل القصائد المهربة!
من هنا يبدأ الشاعر (مفتاح العماري) رصد سقف ليله ( سقف الليل، النص الذي نحن بصدد مقاربته) وحشد حفريات أوردته في جسد اللغة وتضاريس تشوفاتها، باعتبارها – اللغة – أحد أجلى خنادق تموضعات النص وحقل تساوقاته.
ثمة حصار، وثمة حصاد يتناوبان، في الفعل، في (حقول الحبر… من رسوم نائمة… خطتها يد مجهولة) ويعيدان تهجي ملامح الصورة لتركيزها في مفاصل الذاكرة المرجأة المنتزع (أسمها من سقف الليل..)… والتي (خطتها يد مجهولة..)… لمن هذه اليد؟… والسؤال هنا للتوصيف لا للاستيضاح، فالشعر يسأل ولا يُسأل.
اسمها منتزع من سقف الليل.. من هي… المرأة أم المدينة أم المدينة/ المرأة؟… الاثنتان تجمعان (غنائم الخطيئة)… ليس بالفطرة… ولكن ليس على الضد منها أيضا… ربما تلبية لحراك فعل (الرسوم النائمة)؟
هل نتجاوز على مقتضيات الأشياء وحراكها بهذه القراءة أو نسطحها… رغم انسجام الصورة التام مع نزعة جمع غنائم الخطيئة المتأصلة؟ علينا أن نؤكد في هذه اللحظة من زمن القراءة إنها تشوف وليست ارتجاعة قهرية لليل مضى، في زمن وتصور النص الذي بين أيدينا على وجه التخصيص.. كما علينا، أن نؤكد في (زمن الشعر = تطلعه) أن سقف الشعر لن يكون خيمة رجاء بل توكيد لأفق… كما في تطلع الشاعر العماري هنا… ولو كان (من جوف أغنية مهجورة) كما يقول، العماري، في مفتتح نصه.
يا لها رحلة قاسية دليلها نجم تائه
كورته مشيئة نون
وهذا الإقرار يأتي دعما لهذا التشوف ولتصالبه، ومنذ خط الشروع، كصوة قائمة بذاتها وعلينا رؤية إضاءتها بالشعر… وبالشعر وحده… غير نادمين أو (غير نادمة) بلغة النص وهو يخاطب مدينته الأنثى وأنثاه في جسد المدينة…
وهكذا تطعنين (ويطعن الشعر) الوقت بمدية عمياء
تردين الميت والحي بضربة واحدة…
وهكذا ينسج الشعر سقفه المرير وسقف ليل المدينة/ الأنثى… لكي لا يبقى (أسم… يكبو بعلوّ ثقيل/ “لـ” يهوي حاصدا أعناق محبيه).
ولكي لا يخرج سقف الليل عن شروط انتمائه ويتحول إلى حصار ويتحول الحصار إلى قماط وبريد باتجاه واحد.. (حيث كل أنثى/مدينة… تتوج ضعفها بياقوت البكاء) علينا أن ننهض بسقف لليلنا وبحوار جديد للغتنا المغتصبة، حيث (كل فارس يصطفي بضع كلمات شاردة… ويضرم حريقا في سقف الليل) لكي لا نجرد أيدينا من أصابعها ويمسي كل منا (خبيرا بمخلفات الجيوش)… وأيضا بلا سقف منظور لليلنا فيأكلنا صقيع المصابرات… وقبل أن..
(لا) يعد لها ثمة أين
لا أحد
لا موسيقى
لا قمر يسمّى
ولكي لا تتحولي أيتها المدينة التي ضمخك ليل بلا سقف إلى (مستحيل لا يصاغ)… فليكن لك سقفك ليكون سقفا لليل… لتكوني مدينة أخرى في تهجيات القديس أغسطين.
الشاعر العماري لا يستعرض تاريخا بل ينثر ذاكرة مدينة زحف ملح البارود (بمقصد الروائي غارسيا ماركيز) إلى قلبها… ويستوقف هذه الذاكرة ليستبدل تهجياتها المواربة بلغة صريحة تعيد الإفصاح عن تاريخا وتعيد وضع وجوه أبنائها على خارطة هذا التأريخ… لكي لا يأكل ملح البارود جغرافيا هذا التاريخ ويزحزح تضاريسه إلى ما تحت نجوم غير نجومها.
ولكن ثمة غلالة وثمة صقيع… وأيضا ثمة لغة لا تهتدي إلى أبجديتها التي يجب أن تعيد تكريس تاريخها بمفرداتها… ليصير لها (أين) تتجه إليه وتزيح عن تاريخه القادم اليد المجهولة.
ماذا يتبقى من المدينة إذا ما نزعت عنها ذاكرتها؟ حقول حبر أم وجوه مبددة؟ بهذا السؤال يحاصر الشاعر العماري مدينته وينتظر منها الجواب، بعد أن يخلع عنها جميع أردية الليل ويصلبها أمام مراتها… فبماذا ستجيب ذاكرتها؟
سننتظر أن تنزع (سقف الليل) عن وجاهاتها..
* روائي وناقد.