جلسنا متقابلين على أريكتيّ صالة الاستقبال، ابتسامة، فابتسامة واختلاس نظرات، بالنسبة لي حضرت مبكرًا لِكي أتمَّ بعض الإجراءات، وأرتاح قليلًا قبل موعد الجزء الثّاني من اليوم التّعريفي لاستقبال الطّلبة الجدد، وكنت قد لمحتها من بين الطّلبة ضمن فعاليات اليوم الاحتفالي الأول، لهذا كنت متشوقة لافتتاح الحديث معها، كاد الفضول أن يقفز من عينيها الجميلتين، وكذلك أنا كنت مستعدة لبدء مشوارٍ لطالما كافحت لأجله، ومثل هذا المشوار لا يكتمل إلّا برفيق يبادلك الآراء والمعلومات، ولهذا كنت متشجعة لمبادرة كسر حاجز الارتباك، وما يزال الوقت مبكرًا لبدء فعاليات الجزء الثّاني.
كان علينا انتظار خمسٍ وأربعين دقيقة وقت القيلولة، كانت ستمرّ ثقيلة بطيئة لولا ذاك الوجه البريء، وأخيرًا وجدت سبيلًا لكسر حاجز الابتسامات الخجولة.
باغتها بابتسامة وسؤال: “يبدو أنك طالبة جديدة لأنك تحملين خريطة نشاطات الأسبوع الأوّل”.
أجابت مع ابتسامة عريضة ويد مصافحة: “أنا… وأنا…”، هكذا كان اللّقاء وببساطة، تبادلنا الأسئلة لعشر دقائق، تعارفنا بشكل بسيط، علمنا أننا سندرس نفس البرنامج واتفقنا على السّير معًا لمكان الملتقى الثّاني.
تبقّت خمسٌ وثلاثون دقيقة، بحماس نظرت لهاتفها ثمّ قالت: “ما رأيك أن نطلب قهوة ونسير لمقصدنا باكرًا ونكمل حديثنا في الطريق؟ فلقد كنت أبحث عمن يرافقني إلى هناك”.
هنا استشفيت الحرص الأوروبي على المواعيد، ولكن هناك شيء آخر أستشعره من حضورها، شعور غريب جعلني أشعر بالانشراح للحديث معها ولم أستطع كتمان سعادتي، ولم نستطع التّوقف عن الحديث، سِرنا معًا نعاند رياحًا باردة وكلانا ممسك بكوب ورقي يحمل مشروبًا ساخنًا، لعله يعيننا لنبقى متيقظتين حتّى انتهاء السّويعات القادمة.
تتبعنا المسار على الخريطة وأخذ المشوار 10 دقائق سيرًا على الأقدام، عشرون دقيقة على بدء المحاضرة التّعريفية الخاصة بكلّ الطّلبة الجدد ومن كلّ التّخصصات والبرامج الدّراسية.
دخلنا مبنًى كبيرًا وسرنا ضمن طوابير، وحجزنا مقعدين في المدرج…ما زال أمامنا بعض الوقت للثرثرة، سألتني: “ماذا ستفعلين بعد انتهاء المحاضرة؟”، أجبتها: “سأعود أدراجي لأنَّ الظلام سيخيم قريبًا”. قالت: “بالفعل، بانتهاء الاجتماع سيحلُّ اللّيل”.
وبعفوية راجعنا جدول المحاضرات والمواد الاختيارية، ثمّ تبادلنا أرقام الهواتف لنتواصل، كانت مستمعة جيّدة ومنتبهة لكلّ الملاحظات حتّى انتهاء الاجتماع.
كنت على عجلة للحاق بموعد مغادرة القطار وكذلك كانت هي على عجلة لتصل إلى وجهتها، افترقنا ولكن دفء اللقاء وبشاشة الوجوه علقت بمخيلتنا، ليلًا وصلتني رسائل منها تطمئن فيها عليّ، وتابعنا تعارفنا واتفقنا على التّلاقي في الغد، بعفوية سألتها عن اسمها وأنه يبدو مألوفًا لديّ، وقريب للفظ غُربة بالعربية، وترجمته لها بوجوه باسمة، كان ردها: “نعم، هو ذا معنى اسمي، فوالديّ مهاجران من أصول غير عربية، ترعرعا في المهجر واستقرا بأوروبا”.
هكذا تعارفنا وهكذا التقينا وهكذا بدأت صداقتنا… تشاركنا مقاعد الدّراسة وتفاصيلنا اليومية، وتبادلنا وصفات الأكل والوصفات العلاجية، ضحكنا معًا ولم أرها تبكي مطلقًا، لكنها كانت تعرف كيف تواسيني، استمعت لمخاوفي واستمعت لها، تبادلنا الآراء والنّصائح وكانت ميولنا الدّراسية متقاربة، لهذا استمر تشابك تفاصلينا حتّى في قاعات المعامل والمجموعات البحثية، كانت عمليّة جدًا ومثابرة، ولكنها مغامرة تسير وفق برنامج مسبق للعمل والتّرفيه، تعشق القراءة والطّبيعة.
قد يكون عام واحد مدّة قليلة لتكوين صداقة عميقة، لكننا فعلنا ذلك! انصرمت ساعات ذاك العام كغيرها بحلوها ومرّها، يسيرها وعسيرها، حتّى انتهى المطاف بنا جالستين بجوار بعضنا، كلانا يحاول افتتاح موضوع وأعيننا مركزة على ساعة الصّالة والباصات المغادرة للمطار، مرّت الثّلاثون دقيقة بسرعة، وحتّى الخمسة عشر دقيقة الإضافية لتأخر الباص لم نشعر بها، مرّت سريعة، وحديثنا متقطع، ولكنها لم تستطع ألا تبكي هذه المرّة، أمّا أنا فكنت متماسكة وتمالكت مشاعري رغم أن عينيّ اغرورقت بدمعات تتساقط بهدوء، وعلى فترات متباعدة.
لحظة وصول الباص كانت لحظة الحسم، قالت لي: “لا أدري لماذا أبكي، لأنني متيقنة أننا سنلتقي، إذا لم تأتِ لزيارتي سأزورك حتمًا، أو سنلتقي في العطلات في أيّ بلد يناسبك، لنتمشّى سويًا ولا تنسَيْ أننا سنبقى على اتصال دائم”.
ودّعنا بعضنا وعلى وعود اللّقاء بمشيئة الله مستقبلًا… كطيور مهاجرة عادت كلٌّ منّا إلى موطنها وبقينا على تواصل، ولا تزال حروف اسمها منقوشة بقلبي، غربة حلوة كلما حنّ الفؤاد.