ابنتي إلى جانبي في المطبخ، ترسم على جهاز الآيباد فتاة لها نمش كثير على أنفها وخديها، ذكرتني بصديقة قديمة، وأنا أفرط حبيبات الرمان لتزيين أطباق العاشوراء التي تركتها لتبرد قليلاً، سألتها:
– تبي تكحلي عيونك ونقصلك شوي من أطراف شعرك؟
– ليش1 يا ماما؟
– اليوم عاشوراء!!
– وإذا عاشوراء، هذين بدعة يا أمي!!
– كنا نفرح لما أمي تكحلنا وتقص من شعرنا!
– هذا زمان على أيامكم!!
ساد الصمت، عادت هي للرسم، وعادت بي الذاكرة إلى ذلك الزمان، وذكرني رسم ابنتي وحبيبات الرمان بوجه (جمانة)، صديقتي التي كوَّنت معها صداقة لفترة قصيرة، لكني لم أنساها، فهي من علمتني طريقة عمل طبق العاشوراء، وكيف أزينه بحبيبات الرمان، عندما أحضرت لنا طبقًا منه لنتذوّقه في المدرسة، كان لذيذاً جداً!
صديقتي جمانة (جريتلية) من سوسة، هذا أول عام دراسي لها في مدرستنا، في نفس صفي، وشاءت الصدف أن نتشارك (البنك) المقعد معاً. كانت جميلة، لها عينين ملونتين، وشعر برتقالي تتركه ضفيرة خلف ظهرها، على أنفها وخديها الكثير من النمش، أخبرتني يوماً إنها تقيم مع جدتها هذا العام لظروف عائلية، وأنها وحيدة والديها، وتتمنى أن تجد شيئاً تخفي به هذا النمش، الذي تعرضت للتنمر بسببه، صرنا نتقابل في طريق الذهاب إلى المدرسة وطريق العودة، فقد كانت طريقنا واحدة، كنا نتعرض لمعاكسات أولاد الثانوية، حتى انهم لقبونا بـ(ميراندا وبيبسي)!! فقد كان لي أنا أيضاً ضفيرة بلون أسود، أعجبت جمانة بهذا اللقب كثيراً، حتى إنها قالت لي وهي تضحك: (خلاص توى اسمي ميراندا)، فقد كانت لا تحب اسمها، فقد تعرضت بسببه هو أيضاً للمضايقات من بعض طالبات المدرسة، فقد كان اسمًا جديدًا وغريبًا علينا.
ذات يوم، وقبل أيام من عاشوراء، وفي حصة الاستراحة، أخرجت لي من حقيبتها قلمًا، قالت إنه كحل خليجي، لا يشبه مكحلة أمي، مرودها الذي كحلتنا به، فهو يشبه قلم الرصاص، منتفخ قليلاً من الأمام، وواصلت كلامها:
– جدتي جابته من الحج! قالتلي حطي منا في العاشورا، يطوّل وهو قاعد في العين جربيه!
ثم أخرجت أصبع بلاستيك لونه أخضر، وحتى عندما فتحته كان لونه أخضر، قالت لي إنه أحمر شفاه سحري، يتغير لونه عندما تضعيه على شفتيك، كان لي نصيب مما جلبته جدتها من الحج، سعدت بها كثيراً وأخفيتها سريعاً في حقيبتي.
– مش كل يوم عاشورا! والكحل مازال في عيونك، العاشورا كملت لها عشر أيام.
هذا ما قالته مديرة مدرستنا لجمانة في طابور الاستراحة، كتمت ضحكتي عندما لمحت الغضب على وجهها، وحل محله الخوف، بعد أن طلبت منها الوقوف في ساحة المدرسة تحت الشمس، بقية اليوم الدراسي. انتفخ وجه جمانة، سال كحلها مع دموعها، واحترق أنفها، ظلت صامتة في طريق عودتنا! لم تتكلم أبداً حتى دخلت إلى زقاق بيتهم.
مر ثلاثة أيام ولم تظهر، ولم يبق على الامتحانات إلا أيامًا قليلة، حاولت أن أذهب إلى بيتهم، ولكن الزقاق كان طويلا وبه بيوت كثيرة، كنتُ أعرف كنيتها ولكن لم أكن أعرف هل هي جدتها لأمها أم لأبيها؟ وخفت أن أتأخر عن البيت ويقلقون علي. لم تعد جمانة إلى المدرسة أبداً، ولم تكمل عامها الدراسي معنا.
التقيتها بعد عشرة أعوام في حفل زفاف خارج مدينتا، تعرفت عليها بمجرد أن وقعت عليها عيناي رغم التغير الكبير في ملامحها، اقتربت منها، ويبدو إنها لم تتعرف علي، عندما قلت لها:
– كيف حالك ميراندا؟؟
انفجرت بالضحك وهي تحضن يدي بين يديها، أفسحت لي مكاناً بجانبها، جلسنا نستمع لصوت (تونس مفتاح)2 الخارج من سبيكر الـDJ وهي تغني ( نسيتك يا البعيد ).
عدت من ذكرياتي على صوت ابنتي وهي تنهي رسمتها وتسألني:
– ماما ليش يكحلوا في عاشوراء؟
1- ليش: بمعنى لماذا؟
2- تونس مفتاح: مطربة ليبية.