استطلاعات

النقد في ليبيا .. محلك سر

النقد في ليبيا عصامي
بعض نقّادنا ليسوا نقّاداً بقدر ما هم مجاملون

مجلة الفصول الأربعة

كتابة
كتابة

بالرغم من قدم هذا السؤال، إلا أنه حتى تاريخ هذا العدد، لازال الأدب الليبي يعاني من غياب النقد، وبالتالي، كنتيجة؛ غياب الناقد. وباستثناء بعض الجهور الفردية التي انتهت بانتهاء آجال أصحابها، لم ينشأ في الأدبي الليبي أي توجه نقدي، أو ناقد مختص، وظل الأمر رهين القراءات الانطباعية يقوم عليها مجموعة من الكتاب والمبدعين.

في هذا الاستطلاع، نحاول أن نجمل أهم الآراء حول النقد والنقاد في التجربة الإبداعية في ليبيا، دعما لملف العدد بالخصوص، من خلال ثلاث أسئلة أو محاور أساسية، وهي:

أين تكمن مشكلة النقد في التجربة الأدبية في ليبيا؟
كيف تقيم التجربة النقدية في ليبيا؛ من ناحية التجربة النقدية والنقاد؟
لماذا يغيب النقد الأكاديمي، ولا نجد له حضوراً في الحياة الثقافية في ليبيا؟

وهي محاول رأيناها تختصر أهم إشكاليات النقد في ليبيا، لتكون مفتاح هذا الاستطلاع، الذي التقينا فيه مجموعة من مثقفين وكتاب ليبيين.

هل يوجد عندنا نقاد في ليبيا؟
حنان محفوظ – شاعرة

من وجهة نظري إن عدم قيام النقاد الحقيقيين بدورهم في النقد للنتاج الأدبي، هو ما جعله مازال يراوح، وهو ما يجعل الأسماء تتكاثر بشكل الكم لا الكيف! وأعتقد أن المتواجدين بساحة النقد الآن يقدمون براءات انطباعية للنصوص الأدبية، ولا دراسة تشريحية نقدية، ماعدا القلة قليلة.

وبعضهم نراه يكتب بشكل مجامل للكاتب، وهذا أراه في نظري لا يخدم النص ولا الكاتب إذ لابد من أن أرى كشاعرة مواطن الضعف في نصي؛ في تركيبته ولغته لكي أصنف وأقوي نصي.

لذا نجد المدرسة النقدية في ليبيا مازالت في بداياتها، أو إنها تحبو حتى وإن بدأت من زمن، وربما هذا يرجع لفقرها والساحة النقدية من المتخصصين، إلا بعض الأسماء المحدودة.

الإبداع والنقد جناحان لطائر واحد
إبراهيم الإمام – قاص وروائي

النقد والأبداع الأدبي وجهان لعملة واحدة.. بل توأمان سياميان.. يفترض بهما ان يعيشا معا.. ينهلان من نفس النبع ويحتسيان من نفس الكأس.. ويهضما كل ذلك بمعدة مشتركة.. وقلب واحد كذلك مسؤول عن سريان الدم في عروقهما.

الأبداع الأدبي بجميع اشكاله وفنونه من شعر وقصة ورواية ونثر وخاطرة بحاجة ماسة وضرورية لعين ناقدة ونافذة

تنفذ الى اعماق النص وتنبش فيه لتستخرج ما فيه من درر او لتزيل عنه ما يكتنفه من غموض او تنتقد ما يشوبه من اعوجاج لغرض اصلاحه او ترميم ما شابه من كسور او خدوش.

الناقد بالطبيب الذي يشخ الحالة.. ربما هو كذلك مرآة للمبدع يرى هو اولا ومن ثم جمهور المتلقين من خلاله ما ينعكس على سطحها.

انه الواسطة بين المبدع والمتلقي.. يستطيع هذا الناقد ان يرى ما لا يراه المتلقي انه يمتلك خاصية سبر الاغوار.. اشبه بالجواهرجي الذي يستطيع تقييم التحفة الفنية بعينه المجردة.. لكنه لا يستغني عن ادوات اخرى ليرى ما دق من نقوش ورسوم ليحسن تقييم التفة ويسومها سوما حسنا يرفع من قدرها.

المبدع بلا ناقد ينقد عمله او ينتقده الزهرة بلا اريج وكالنخلة بلا ثمر أو السحابة بلا مطر. إنهما جناحان يطير بهما العمل الابداعي ليحلق في سماوات بعيدة.

غياب النقد اضر ولا زال يضر بالمبدع.. انه يعرض سلعته في غير سوقها فمهما كانت جميلة ومميزة فلن يشعر بذلك المتلقي او لن يرضى عن فعله الابداعي الا بعد ان تخرج من تحت مجهر الناقد.

نأمل ان نرى جيلا من النقاد المبدعين يحسنون تقييم الفعل الابداعي وتقييمه ليساعدوا المبدع في انضاج قادم اعماله على نار نقد هادئة متفحصة تنضجه ولا تحرقه.

هل يعد سؤال النقد منفصلًا عن سؤال الأدب في ليبيا؟!
جلنار أحمد – دراسات عليا أدب ونقد

هناك من النقاد من يرى أنه ليس بالضرورة تدريس مادة النقد الليبي لطلبة الدراسات العليا، لأنهم يرون أن الخصوصية تكمن في العمل الأدبي، بخلاف الأدوات النقدية التي تتشابه بين الأقطار، ولكن… ماذا عن ثقافة الناقد وذاتيته التي هي جزء من العمل النقدي، فقد ذكر طه حسين أن تأريخ الأدب ليس بالعلم الخالص ولا هو بالفن الخالص، ففيه موضوعية العلم وذاتية الفن، وأنه يستحيل على غير الأديب أن يؤرخ الأدب (حسين الواد: في تاريخ الأدب مفاهيم ومناهج،69_70)، فكيف بالنقد الذي يتطلب إحساسًا مضاعفًا لاستشعار جمالية النصوص؟

إن الشروع في عملية النقد تعني الارتباط بالنص موضع الدراسة، وهذا الارتباط ليس مشروطًا بإقليم أو ديانة أو زمن… وليس للناقد أن يتناول نصًّا بدافع الشفقة، لأنها تحول دون التفاعل مع النص وتخلق نوعًا من التهيب بينهما، وإن حدث ذلك فلن يكون للعمل النقدي تلك الأهمية، لأن اختيار النص المقروء ليس نابعًا من احتياج لقيمة الدراسة، وهذا ما يضع الكثير من علامات التعجب أمام الشعارات التي تدعو إلى تناول النص الليبي بالنقد، كان الأجدر أن تُوجه تلك الشعارات والأسئلة للنص الأدبي الليبي، لماذا لم يُقنع النقاد الليبيين لتناوله؟!

إن الإجابة عن السؤال السابق ليست من السهولة بمكان، فلربما يكون سبب العزوف عن تناول الأعمال الأدبية الليبية، بأدوات نقدية متقدمة، هو الخوف من سطوة المؤلفين وتعسفهم في بعض الأحيان، بل وإملاء المنهج الذي ستتناول به نصوصهم! وهذا ما يتضح من متابعة النصوص الإبداعية على صفحات التواصل الاجتماعي وتفاعل المتلقين، الذي يُواجه باستنكار طريقة القراءة من قبل بعض المبدعين، مما يجعل الناقد يخفي قراءته طي الأدراج في بعض الأحيان في انتظار أن يموت المبدع أو يموت هو، أو أن يختصر الطريق ويأخذ نصًا لمبدع قد مات بالفعل!

إن الناقد الليبي له الحق في أن يدرس أي نص شاء، ويعتبر عمله ليبيًا، لأنه ينتمي له فقط، وليس بالضرورة أن يستند على مبدع ليبي، إلا إذا أحس أنه في حاجة إلى ذلك، أي انه وجد تفاعلًا بينه وبين النص الذي يشاء دراسته، وألا يكون الأمر مفروضًا عليه من قبل المؤسسات المعنية بهذا الأمر.

وكثيرًا ما يتداعى إلى مسامعنا أن النقد الليبي لم يواكب الإبداع وأنه لم يطور أدواته التي تمكنه من البحث المعمق في النصوص، وهل يُوجه هذا السؤال أيضًا إلى الناقد؟ أم أنه ليس المسؤول عن ذلك، إذ لا يمكنه أن يجعل من نصه النقدي قصيدة كلاسيكية بجرس راقص، لتجذب المتلقي الأولي، وهذا سؤال آخر لمن يحمل شعار تأخر النقد، هل اطلع هؤلاء على الرسائل الجامعية ورسائل الماجستير النقدية المركونة في أسفل أدراج المكتبات الجامعية؟! هل تم الاهتمام بها ونشرها ومناقشتها وتقويمها من قبل الجمهور الواسع، ليكون ذلك حافزًا لإنتاج المزيد؟!

إن أزمة النقد في ليبيا هي أزمة كل التخصصات الأخرى، من معاناة الغياب المؤسساتي، فهي ليست سوى جهود فردية، وهي أزمة الإبداع الذي عانى من انعدام التسويق وقلة النشر، وتضخم شبح الرقابة المقيتة، إن النقد يعني التفكير، والعزوف عنه هو عزوف عن التفكير.

النقد في ليبيا عصامي
سالم العوكلي – شاعر

النقد في ليبيا كان دائما عصاميا ونتاج اجتهادات من قبل أفراد حاولوا إطلاق الحوار والرؤى النقدية داخل المناخ الإبداعي النشط، تميز في معظمه بنهجه الانطباعي في غياب المختصين في مناهج النقد الحديثة، ولأن النقد نشاط يحتاج للبحث والمراكمة فمن المفترض أن يكون الوسط الأكاديمي هو ورشته الفاعلة ومصدر حيوته، لكن للأسف بسبب تردي أوضاع الجامعات لدينا والدراسات العليا، لم يسهم هذا الوسط إلا فيما ندر جدا في خلق حركة نقدية فاعلة ومتجددة، وحتى معظم رسائل الماجستير والدكتوراة في مجال النقد الأدبي اتجهت إلى إعادة إنتاج النظريات السائدة أو اشتغلت على أدباء عرب مع قصور واضح في التفاعل مع البيئة الأدبية المحلية، وحجتهم دائما غياب المراجع  فيما يخص المبدعين الليبيين، في الوقت الذي من المفترض أن يبادروا إلى تأسيس المراجع وفق تطبيق النظريات الأدبية والمناهج النقدية على النص الليبي الذي مازال في معظمه يغامر خارج أي حركة نقدية بقدر ما تطلق الحوار معه تكتب له تاريخا أو سردا يراكم مسيرة وتطور ونقلات الإبداع في كل الأجناس الأدبية. ولتعويض هذا القصور اجتهد مبدعون ليبيون، روائيون وشعراء وقصاصون في كتابة رؤى نقدية متفرقة تميز بعضها بالأصالة والتفاعل مع المنتج الإبداعي، وفي معظم هذه المحاولات كان المبدعون يكتبون النقد أحيانا من باب الدفاع عن حساسياتهم الجمالية الجديدة وعن نصوصهم المغامِرة. غير أنه في المحصلة تعاني ثقافتنا من عوز ظاهر  في ما يمكن تسميته العقل الناقد أو التفكير الناقد في كل المجالات ، وهذا ما انعكس على النقد الأدبي الذي لا يمكن أن ينشط إلا في مناخ نقدي شامل من شأنه أن يفكك العلاقات كافة في المجتمع وفي النص ويطرح حيالها الأسئلة الأصيلة، وبقدر ما يحتاج العقل النقدي إلى فضاء من الحرية وإلى بعد مؤسسي يعمل ضمنه بقدر ما يحتاج نقد الأدب إلى مثل هذا الفضاء، والبعد المؤسسي يتمثل في الجامعات وفي مراكز البحث وفي الدوريات المختصة بالنقد (التي لم أسمع بها في ليبيا) حيث كان المساحة المتروكة للنقد غالبا ما تكون متطفلة على مجلات ثقافية متنوعة أو صفحات ثقافية مستعجلة في الدوريات، أو في ندوات غالبا ما تذهب الأوراق الملقاة فيها أدراج الرياح.

النقد في ليبيا .. محلك سر
يونس شعبان الفنادي – كاتب

نشرت مجلة “صوت المربي” الصادرة عن رابطة المعلمين للصداقة والثقافة في ليبيا، ضمن عددها الصادر بتاريخ 13 أبريل 1956م مقالاً بعنوان (مستقبلُ النقدِ في ليبيا) يشخِّص ما يعانيه النقد في ليبيا آنذاك من تدني تحليلي عند تناول النصوص الأدبية المختلفة. ويقول المقال (إنّ الناقد الليبي، مع بداية الخمسينيات، كان على درجة واضحة من السطحية والتقريرية، وغيرها من سمات الناقد المبتدئ، إذ اتجه إلى التعميم في أحكامه، دون تعليل أو تمحيص). والإشارة هنا اليوم إلى ذاك المقال التاريخي القديم الذي يرجع إلى أكثر من خمسة وستين سنة، غايته الأساسية هو التذكير والتأكيد على حرص المشهد الأدبي على تناول قضايا النقد في ليبيا مبكراً خلال أزمنة بعيدة، وكذلك اهتمام الصحافة الليبية بالنقد والتي كانت وقتذاك الفضاء الوحيد لنشر واستعراض كتابات النقود الأدبية المختلفة، نتيجة ندرة طباعة الكتب المتخصصة، وانعدام وسائل نشر أخرى.

وبالتالي فإن إعادة مناقشة قضية النقد في ليبيا مجدداً هنا في هذا الزمن، من خلال محاولة الإجابة عن السؤال حول (كيفية تقييم التجربة النقدية والنقاد في ليبيا؟) يشي بأننا بعد أكثر من ستين سنة لا زلنا نراوح مكاننا (محلك سر)، ونعاني القصور الفكري ذاته والغياب النصّي نفسه، وكأن علاجاتنا السابقة – إن وجدت- لم تثمر في إصلاح النقد، رغم اليقين التام بأن أزمة النقد لا تقتصر على مشهدنا الوطني فحسب بل تطال كذلك مجتمعات أخرى. ويقودنا السؤال المطروح بلا شك إلى سؤال أساسي آخر هو (هل يوجد لدينا نقاد؟) على غرار ذاك السؤال الشعري الذي فجره الراحل خليفة التليسي، في خمسينيات القرن الماضي ولازلنا نعتبره سقفاً لتقييم شعراءنا رغم الكثير من المتغيرات والمستجدات الإبداعية التي طرأت على النص الشعري موضوعياً وتقنياً.

إن الإجابة على السؤال النقدي نثير العديد من النقاط بشأنه، لعل أهمها أن ما يتوفر لدينا حالياً هو مجموعة من القراءات النقدية الانطباعية فقط، وهي وإن اعتبرناها نقداً، إلاّ أنها تظل لا تتضمن الغوص العميق في النصوص الإبداعية وتفكيكها وتحليلها وفق مناهج نقدية حديثة. والنقطة الثانية هي عدم تمكننا طوال هذه العقود الزمنية من توفير فضاء نقدي وإعداد ممارسين وكتاب متخصصين في هذا المجال، وإصدار مطبوعات متخصصة في نقد القصة القصيرة، ونقد الشعر، ونقد المسرح، ونقد الفنون التشكيلية وغيرها، وهذا في تصوري يرجع لسببين، أولهما عدم غزارة المنتوج الإبداعي في الأجناس الأدبية والفنية كافة، وثانيهما عدم وجود صحافة نقدية تنشر الكتابات النقدية الشاملة على محدوديتها. وثالث النقاط تتمثل في الهوة الواسعة بين الدراسات الأكاديمية الجامعية والمنتوج الأدبي الإبداعي، والابتعاد عنه، وعدم متابعته وتناوله في دراسات نقدية تخصصية عميقة.

كل هذه الأسباب، وأخرى غيرها، تجعل فاعلية الحركة النقدية في ليبيا متواضعة جداً، وبلا ملامح فنية مميزة لها، وافتقارها لنقاد متخصصين في الأجناس الإبداعية كافةً. أما على صعيد المنهج النقدي في ليبيا فإنه لم ينفتح على التجارب النقدية المتقدمة كما نجده في المغرب العربي الذي استفاد من المدرسة الفرنسية تحديداً، وعمل على تطوير أدواته ووضع سمات هوية نقدية مميزة، عكس ما نشهده في ليبيا فرغم محاولة السير على خطى المدرسة النقدية الشرقية والمصرية تحديداً، إلاّ أن الاستفادة منها -فيما أزعم- محدودة جداً، بسبب إبقاءها على تقليديتها المنهجية القديمة وعدم قدرتها على التطور وتحديث أساليبها وتقنياتها الفنية في التصدي للنصوص الإبداعية أثناء الممارسات النقدية عملياً. وإجمالاً تظل كل الجهود النقدية الفردية محترمة وتستحق الكثير من الدعم والتشجيع والثناء.

بعض نقّادنا ليسوا نقّاداً بقدر ما هم مجاملون
يوسف إبراهيم – شاعر وروائيّ.

نقد النقد يحتاج وعياً معرفيّاً ذي مرجعيّة محدّدة قد لا تتوافر لديّ، والنقد هو الحُكم والحُكم يتّصف بالنسبيّة. والتجربة تفاعل الكاتب مع موضوعه. الإبداع يسبق النقد غير أنّ نقدنا إمّا أن نجده متأخّراً جدّاً عن الإنتاج الأدبيّ أو متجاوزاً له وسابقاً عليه.

يتأخّر نقدنا –أحياناً- عن إبداعنا زمنيّاً، فنكتشف متأخّرين أنّ لدينا إنتاجاً مبهراً أهمله نقّادُنا، ويتأخّر –أحياناً أخرى- فنّيّاً؛ لأنّه في مجمله لا يزال انطباعيّاً لا تحكُمه أُطُر نظريّة ولا أُسس معرفيّة. ويتقدّم عليه فيما يشبه التيه والتعالي إلى درجة التنظير ورسم مسارات وقوالب لا يَسمح للإبداع بتجاوزها ولا تخطّيها، متجاهلاً –أو جاهلاً- بأنّ نقد الأدب تابع للأدب زمنيّاً ولاحِق له وليس حاكماً عليه.

بعض نقّادنا ليسوا نقّاداً بقدر ما هم مجاملون، يكتبون عن بعض الكتّاب وبعض الكاتبات ليتقرّبوا منهم ومنهنّ. وبناءً على ذلك ينصبّ اهتمامهم على أسماء معيّنة تهمهم اجتماعيّاً أو أجناس أدبيّة تحظى بجماهيريّة كبيرة ليكونوا معها في الواجهة.

في بعض جامعاتنا نقد ونقّاد، بعضهم متمكّن من أدواته ويمارس النقد بثقة، وبعضهم يحترف الوصف السمج ويحسبه نقداً، ويكتب النقد فقط ليحصل على ترقية وظيفيّة. وفي جامعاتنا لا يُدْرس الأدب الليبيّ إلّا قليلاً، إذ لم يصل إلى الكثيرين من باحثينا أنّ أدبنا أيضاً أدب، وأنّ تخلّفنا الحضاريّ والثقافيّ ليس من الضروريّ أن يكون منسحباً أيضاً على نصوصنا. وفي جامعاتنا الليبيّة –غالباً- على المؤلّف أن يموت حقيقة لا حًكماً كي يُسمح لباحث بتناول إنتاجه.

الناشر أيضاً ناقد، وهو في العادة لا ينشر إلّا لمن يعرفهم مسبقاً، إمّا شخصيّاً أو عبر وسائل الإعلام؛ لذلك يظلّ جُلّ منابرنا صحفاً ومجلات ودور نشر عاجزة عن البحث عن الجديد وتقديمه.

لماذا يغيب النقد الأكاديمي، ولا نجد له حضورا في الحياة الثقافية في ليبيا؟
محمد الصادق الخازمي – أستاذ مشارك بكلية التربية -جنزور جامعة طرابلس

هذا سؤالٌ وجيه، وهو يقوم على فرضية الغياب التي لا يمكن إنكارها، وممّا يزيد الأمرَ غرابةً هو الحاجة الملحّة للأكاديميين للعمل النقدي المستمر، بحكم الدراسات العليا، والجامعية، فهم أولى بتتبّع الحركة الثقافية والنشاط الذي فيها؛ لأنها – باختصار شديد- موضوعهم الذي يتحدّثون فيه يوميا، و لأنها مصدر معاشهم، فكيف يغفلون عن ذلك!

لعلي أورد بعض الأسباب من خلال المعايشة الخاصة:

• أصعب هذه الأسباب، وأشدّها إيلامًا، هو فراغ البحث الأكاديمي من محتواه، فأصبح مجرَّد غايةٍ لمرتّبٍ مجزٍ، ولم يعد ممارسةً مستمرة ومتوالية للبحث العلمي، فاكتفى من يصلون إلى اعتلاء سدّة التدريس في الجامعات بأقلّ القليل، وانتابهم الكسل، وزاد الطين بلّة طبيعة تكوين الجدول الدراسي المزدحم لأعضاء هيئة التدريس، فلم يعد لهم وقت جيد للبحث والكتابة والمتابعة، فاكتفوا بالنزر الذي ينالون به بحوث الترقية، أو يقترحون به موضوعات رتيبة للماجستير أو الدكتوراه.

• ومسألة أولى تعود للتكوين العلمي؛ فنحن لم نتعوّد الاهتمامَ بأدبنا وتراثنا، وكثير من أقسام اللغة العربية تخلو من مادة لدراسة الأدب الليبي، ولا تطرح نماذج راقية منه أمام الطلاب في المراحل الجامعية المختلفة سواء للمتخصصين منهم أم غير المتخصصين، فمن نشأ وهو يجهل أدب بلاده، فلن يكون إلا زاهدا فيه، جاهلا بقيمته.

• ومن صور هذا الجهل أنّ طالبةَ دراساتٍ عليا سألت أستاذتَها عن الشاعر حسن السوسي، فقلّلت لها من شأنه جدا، لم تعرف له أي ديوان، واعتبرته مجرد عابث قليل البضاعة لا يستحق البحث والدراسة!

• وهناك قضية النشاط العام في الجامعات، فإقامة مناشط للكتاب والمثقفين داخل الجامعة تزيد من التواصل الثقافي، وتقوم بملء فراغ التعريف، وتشحذ همة المتابعة.

• وعود إلى المشروع النقدي، فغياب التصوّر من الأصل عند الأكاديميين يجعل الأمل في بناء صورة نقدية منهم ضعيفا جدا، لم يفكر أحد في مشروع نقدي ذي صبغة محليّة؛ ليس من حيث الإضافة للمنجز النقدي العام، ولكن على الأقل أن تكون هناك صبغة محلية عامة تفيد من التأصيل الموازي المنجز في الآداب العربية.

• وضعف النقد أضعف حركة الأدب، فكلمّا زاد الوهج الإبداعي، وأُنتِجَت الدواوين الجديدة، والمسرحيات، والروايات، والقصص زادت متابعة النقّاد خُبُوًّا! وهو أمر غريب جدا.

• والانفصام بين النقد في الجامعات والنقد الموازي الذي يُكتب بجهود خاصة، وبمتابعة ورغبة ذاتية من الصحفيين والكتاب، قضية لها أكثر من سبب، لا يمكن أن يلقى فيها اللوم على الطرف الثقافي المتابع.

هل نكتفي بإيراد الأسباب؟

هذه دعوة لتجاوز تلك المرحلة، ولعلّ فتح هذا الموضوع للنقاش فأل خير يبشر بإداركٍ واعٍ لغفوة طويلة من الجامعات عن الثقافة المحليّة، وتقصير مريب عن متابعة الأدباء بمختلف مشاربهم.

 وأسباب النهوض ذاتيّة تتعلق بالوعي أولا، وبإعادة ترتيب أولويات البحث الأكاديمي ثانيا؛ ليجعل من قضية الأدب المحلي قضية أولى.

ثم إن التأريخ الثقافي والعلمي للبلاد لم يأخذ حقّه في الأقسام العلمية، رغم جهود د.محمد مسعود جبران أكاديميًّا، وجهود علي مصطفى المصراتي على المستوى العام.

ثم إن ضعف التفاعل الثقافي الأكاديمي نقطة ضعف شديدة في البحث الأكاديمي، فحتى عندما يكتب الأساتذة بحوث الترقية فإنهم ينشرونها في مجلات بائسة لا يقرؤها أحد، وانتشارها ضعيف جدا، أما كتابة المقالة، والتدوينة الإلكترونية، وحتى المتابعة على صفحات التواصل الاجتماعي فهي أيضا ضعيفة جدا!

ولا تدري فقد يكون من دواعي سلامة المشهد الثقافي أن يبتعد عنه من لم يجعله همّه الأساس!، ولهذا فإن الدعوات لا يجب أن تتحوّل إلى إجبار تفاعلي فهو مفسد وملوّث، ومن الخير أن يبقى في المشهد المخلصون فقط.

د. أريج خطاب – محاضر بقسم اللغة العربية – جامعة عمر المختار

النقد الأكاديمي ليس غائبا عن الساحة الثقافية  بل هو حاضر بقوة خاصة في السنوات الأخيرة على الصعيد المحلي  والدولي، حيث نوقشت عديد الرسائل وأجزيت كثير من الأبحاث في المؤتمرات  والملتقيات داخل وخارج ليبيا عن الإبداع الليبي المتمثل في الدواوين والقصص والروايات، مثلت أولى خطواتها فعليا رسالة الدكتور “عوض محمد الصالح” عن الحركة الثقافية في ليبيا (الشعر الحر في ليبيا) جامعة الإسكندرية التي أجيزت عام  1996م، وقال عنها  العالم والناقد “عز الدين إسماعيل”: (وبرسالتك هذه قد وضعت الأدب الليبي على خارطة الأدب العربي).

ربما كان الحديث عن هذه الهوة متأخرا جدا، فهي اتسعت في السنوات ما قبل عقدين مضيا، لكنها سرعان ما رُتقت وسُدت بدءا من الألفينيات، حيث أجيزت العديد من الرسائل في جامعة طرابلس، وبنغازي، وعمر المختار، تحمل أسماء لقصص وروايات ودواوين لأدباء ليبيين بدأها في جامعة (عمر المختار) “د.عماد خالد” في دراسته الماجستير حول رواية التابوت لعبد الله الغزال 2008م.

على الصعيد الشخصي فإنني قدمت رسالتي للدكتوراه عن روايات أحمد الفقيه التي أجيزت عام 2016م، عن جامعة عين شمس وتولت وزارة الثقافة المصرية نشرها في كتاب، ضمن سلسلة دراسات أدبية بالهيئة المصرية العامة للكتاب.

ونحن الآن أنا وزميلي “د.عماد خالد”، نعمل ضمن خطة مكتبة الإسكندرية لاستصدار معجم السرد العربي، حيث تولينا معا ما يتعلق بليبيا فيه، بعنوان (ملاح السرد الليبي في العقد الأول من القرن 21)، وقد اعترضتنا العديد من العقبات  أثناء التواصل الشخصي مع بعض الأدباء، بينما رحب الكثير منهم بنا وقدموا لنا كل عون ومساعدة.

أعود بك لنقطة البدء، النقد الأكاديمي حاضر وبكل قوة في الفاعليات الثقافية المحلية والدولية، وكذلك الإبداع الليبي حاضر بكل قوته في المجال الأكاديمي المحلي والدولي، ومن منبركم هذا نأمل ونطمح تكوين جمعية للنقد الليبي تجمع وتوثق عرى هذا التواصل.


نشر: مجلة الفصول الأربعة – العدد: 129، ربيع – أبريل 2021.

مقالات ذات علاقة

المدونات نهضت بالإعلام البديل فخسرت أمام مواقع التواصل

خلود الفلاح

دليفري الكتب.. كتابك يصلك إلى بيتك

خلود الفلاح

ناشرون ليبيون: تزوير الكتب تحول من مشكلة إلى ظاهرة مرعبة

المشرف العام

اترك تعليق