كان من المفترض أن يكون هذا اللقاء قبل أسابيع، لكن بسبب ظروف الوباء وقرارات الإغلاق، ومنْع التنقل، وخاصة أيام السبت تأجل اللقاء ليكون يوم الاثنين، اليوم الأخير للإفطار قبل الدخول في شهر الصوم. وصلت رام الله حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، الوقت ما زال مبكراً لوصول المحامي الحيفاوي الصديق حسن عبادي، أهاتفه، يمرّ من القدس لبعض أشغاله، يتوجه بعدها إلى رام الله، يعرّج على وزارة الثقافة الفلسطينية لإنجاز بعض الأعمال. في هذه المدة أنتظر في مكتبة الرعاة، حيث سيكون اللقاء مع حسن، أتصفح الكتب، كتب كثيرة، مثيرة، لكن ثمة هاجس غريب منعني من أشتري الكتب التي هممت بها لأشتريها، الكتاب الأخير لرضوى عاشور، وكتاب لعدنان كنفاني عن غسان غير “معارج الإبداع” ، وكتاب مترجم عن فرجينيا وولف، للأسف نسيت أسماء تلك الكتب. كتبت عن هذا الهاجس كتابة سوداء مستقلة.
ثمة ما هو جديد صادر عن دار الرعاة رواية جديدة لروائية مقدسية، وديوان للصديق العزيز جمعة الرفاعي “إذ رأى ناراً”، وكنت قد اطلعت على مخطوطة الديوان منذ أكثر من سنة، عدّل في العنوان قليلا، إذ كان “آنست ناراً”، على أي حال كنت أول من رأى صور النسخ للديوان على هاتف العم أبي إبراهيم، فصرت أنا أول من رأى الديوان، هكذا قال لي العم نقولا، وهكذا قال لجمعة الرفاعي الذي حضر إلى مقر المكتبة بعد حين.
إلى مقر دار الرعاة يصل حسن عبادي وبرفقته مصطفى نفاع أبو فراس، بعد السلام، ندلف إلى غرفة المكتب، لم يمض قليل وقت حتى ينضم إلينا كل من الأسير المحرر حسن الخطيب، وكاتبة أسيرة محررة مصحبة معها مجموعة من نسخ كتاب لها عن تجربتها الاعتقالية. لأول مرة أطلب كتابا من كاتب لا أعرفه، وليس صديقاً. تعاملتْ معي بجلافة بادية، بل لم تعرني اهتماما خلال الحديث، وادّعت أنْ ليس معها نسخ، فقد أعطت النسخ للمكتبة، ولكنها أعطت نسخة لحسن ولرفيق دربه مصطفى نفاع. لم أعلق، ولكنني قبّحت نفسي التي هفت على كتاب، من المؤكد أنني لو حصلت على نسخة منه لن أقرأه، فأنا في الفترة الأخيرة لم أعد أقرأ كتباً، فقط أكدسها في غرفة النوم وبجانب السرير، وكلما هممت بالقراءة سرعان ما أشعر بالغثيان والقرف، وعدم الجدوى. فأنا لم أعد أصدق ما يكتبه الكتّاب. إنهم كاذبون بامتياز. كلما هممت بقراءة أي كتاب أقول لنفسي: “ومن أدراني أن ما يقوله صاحبه صحيح ومنطقي”.
ينضم إلى الجلسة أيضا أبو علاء منصور صديق حسن ورفيق الأسيرة المحررة فقد جاءا سوية، ويصل الشاعر جمعة الرفاعي وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين حسام أبو النصر، يحضران معهما مجموعة من الكتب التي صدرت عن الاتحاد لوليد أبو بكر وحسن البحيري ولحسام أبو النصر نفسه ورواية للروائي أحمد أبو سليم وكتب أخرى.
من المؤكد مرة أخرى أنني لن أقرأ هذه الكتب، ولا تلك الكتب والمجلات التي اشتريتها من مكتبة الجعبة. كلها ستكون على الرف. المشكلة ليست في الوقت، فالوقت كثير جدا وكثيف، وإنما في القناعة بجدوى القراءة ذاتها. لكنني لا أستطيع إلا الحصول على تلك الكتب. ربما يأتي يوم وتتغير وجهة نظري فأقرأ ما اشتريت من كتب أو تلك الكتب التي أهداني إياها مؤلفوها.
المهم أننا اجتمعنا في المكتبة في غرفة المكتب، يشرق بنا الحديث ويغرّب، حديث بيني وبين جمعة وحسام حول مقالتي التي انتقدت بها الاتحاد، وانقسام أعضاء الأمانة العامة حيالها بين متطرف يدعو إلى فصلي من الاتحاد، وبين من دافع عني بشراسة وقوة، كما أخبرني جمعة وحسام. لم تكن المسألة إذاً بسيطة. مرّت على خير دون ضجة أو ضجيج.
نغادر المكتبة لنتناول طعام الغداء في أحد المطاعم الشعبية في رام الله، في منطقة “أم الشرايط”، يدور الحديث في هذه الجلسة حول العمل الفدائي وقصص الفدائيين وقصص الأسرى، ثمة قصص محزنة وإنسانية للأسرى، هناك حكايات ستموت إن لم يروها أصحابها، عليهم أن يكتبوها. شعرت بالفعل كما قال صديقي حسن عبادي أن لكل أسير حكاية يجب أن تكتب، وهذه الكتابة ليست ترفا فكريا أو تراكما سرديا، بل ترتقي لتكون مهمة أخلاقية ووطنية وإنسانية، ليتعرف الجيل القادم ومن لم يجرب الاعتقال على معاناة هؤلاء الأسرى. فهذا المعتقل -مثلاً- الذي يخرج بعد عشرين سنة من أسره كيف يتصرف مع زوجته في أول ليلة؟ يطرح السؤال أبو علاء منصور، إنه يتوقع أنهم يقضون الليلة الأولى في البكاء. ثمة حاجة إلى إعادة تأهيل الأسير بعد هذه الفترة من السجن.
بعد تناول وجبة الغداء نتوجه أنا وحسن عبادي والرفيق مصطفى نفاع إلى دار الشروق، لاستلام أربع نسخ من كتاب “أسرى وحكايات” للأسير أيمن الشرباتي. يدور حديث مع الأستاذ فتحي البس حول الثورة والثوار ومرحلة بيروت ومعاركها، ويقص بعض الحكايات الإنسانية، ومنها حكاية ذلك الثائر الفلسطيني وحيد العائلة كلها من الذكور، يقضي شهيداً يوم تخرجه من الجامعة. ثمة تفاصيل إنسانية غائبة عن الجيل الجديد لولا الكتابة التي وثقها كاتبها في واحد من كتبه.
تنتهي الرحلة، وتبقى الحكايات عالقة في الذهن، تنتظر من يكمل مسيرة تخليدها في الكتب التي لا تموت وإن مات كتابها، بل إنها ستبقى الشواهد الحية على عذابات شعب لا يموت ولا يعرف القهر، بل إنه يصنع المعجزات، وإن لم يكن يملك إلا القلم والورقة البيضاء بعد أن تم تجريده من السلاح، لتدجينه وتغيير قناعاته ولو بالقوة، فليس أقلّ من أن يكتب، وذلك أضعف الإيمان. وهذا ما سيجري الاحتفال به يوم السبت القادم (17/4/2021) في مدينة الخليل حيث فعاليات يوم الأسير الفلسطيني، فسأكون حاضراً برفقة الصديق حسن عبّادي، محتفيا بالكتاب الأسرى المبدعين وبكتاباتهم التي تستحق الإشادة والتعريف بها، فكل كتاب هو خلاصة تجربة عسيرة عاشها الأسير ودفع عمره ثمناً لها.
الاثنين 12/4/2021