طيوب البراح

إني اكتفيت

سمية أبوبكر الغناي

من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.
من أعمال التشكيلي الليبي عمران بشنة.

لكلٍ منّا في هذا الكون همومٌ يغالبها وتغالبه، فإمّا أن تنتصر عليه أو يتجاوزها، تتكرر معه مشاهد كثيرة مع شخصيات مختلفة في أماكن مختلفة، فلا يوجد أجمل من لقاء الأنقياء، ولا أبشع من ألم الفقد والفراق.

كنت أتصرف بعفوية عندما سمعت صدى همساتها، اكتفيت. بمشهد تساقط الأقنعة في ليلة شديدة الصفاء، التقيتها قبل خمس سنوات أثناء انتقالي للسكن والدراسة ببلد مجاور. فور وصولي بدأت بترتيب أمور السكن لأباشر دراستي، وبعد محاولات كثيرة ومعاينة العديد من العروض، انتهى بي المطاف إلى حجرة صغيرة قريبة من الجامعة وبسعر مناسب. بالأساس كان بيتًا كئيبًا يضمُّ حجرات كثيرة متناثرة، خالية من السكان إلَّا حجرتينا، ابتسمت لها وأطلعتني على تفاصيل السكنى وفرص العمل بالمدينة. شخصيتها ظاهريًا لم تكن تشبهني وتحاشينا بعضنا كثيرًا بالرغم من تشاركنا محل الإقامة. اكتفينا بلقاء التعارف العابر وكلٌّ منّا أغلقت على نفسها باب حجرتها لتحجب ضعفًا ربما لا غيره. هكذا التقينا، ولا أنكر أنني ارتحت لها، فملامحها رقيقة ومحياها قريبٌ من القلب، مرت الأيام ودارت عجلتها مسرعة كعادتها، مرَّ شهران وكل منّا منغمس في مشاغله. حتى العطلات لم تكن تضفي براحًا وسط انشغالاتنا لنتسامر فيه بعمق، ولا وقتًا لنتحدث بتفصيل، جمعنا الطموح والإرادة وتشاركنا ظروفًا قاهرة بسيناريوهات مختلفة قليلًا. هكذا كان لقاؤنا، أما بقاؤنا فكان شبه مستحيل، إذ آثرت كلٌّ منا السير باتجاه مختلف. نعم، سرعان ما تمَّ بيع ذلك السكن بالمزاد العلني، وتمَّ إشعارنا بضرورة إخلاء البيت. اجتمعت معها ذلك اليوم للتباحث عما سنفعله وسردت كل منّا قصتها للأخرى. مشهد واحد متشابه في فصول ذكريات صعبة في حياة كل منّا، فكلتانا عايشت ظروفًا متشابهة القساوة ومختلفة التفاصيل، استمر حديثنا مسترسلًا بعفوية تناغم فيها صدى ضحكاتنا ورنين أرواحنا، اختصرت تلك المحنة تعارفًا مؤجلًا، فتجاوزنا الصدمة واستطعنا في وقت قياسي إيجاد سكن بديل، انتقلنا للعيش فيه قبيل الشتاء، وعشنا منعمين بسلام ومودة وتآلف.

مرَّ عام كامل بهدوء… ونجحنا بتكافلنا في تجاوز المشاكل التي واجهتنا، وتمكنا من إدارتها بحكمة، حتى اقترب موعد رحيلنا وافتراقنا. ولا يدوم حال! فالانسجام الذي أحسسته كان من طرف واحد؛ أردت صديقة لا تنساني، وأرادت هي أنيسًا عابرًا. في يوم من الأيام عادت رفيقتي إلى البيت وهي تخفي قلقًا واضحًا في مقلتيها، لأول مرة أطرق باب حجرتها فلا تجيب، وأناديها فلا ترُد. يومها لم أستطع أن أبرح مكاني، تسمرت لعشر دقائق، لعلي أسمع صوتًا يُنبئُني أنها بخير. كادت قواي أن تخور، وهممت بمحاولة فتح باب حجرتها، فسمعتها تحادث أحدهم أنها متيقّنة أنني من فعل وفعل… ولا تريد أن تجدد عقد الاستئجار معي لمدة أطول؛ لم أتمالك نفسي، طرقت الباب مجددًا بعد أن تملّكني الغضب، ولم أنتظر أن تأذن لي، حدّقت بها لحظات وقد اغرورقت عيناي بدموع حاولت إخفاءها، ثم التفتُّ إليها كاتمة غيظي وقلت: “أتعلمين حين طرقت بابك قبل دقائق، خانتني قدمايَ فلم أبرح مكاني خوفًا وقلقًا، توقّف قلبي خوفًا عليك، ولكنك لم تعطني مجالًا لأطمئن عليك؛ بقيت لأسمع ما أصمّ أذنَي، أأزعجك منّي كل هذا وأخفيتِه عنّي؟ ما كنت أظنُّ أنني مصلحة وانتهت!”، فما كان منها إلَّا أن اعتذرت بأنها متعبة فقط، وأنها لم تعنِ ما سمعت. عدتُ إلى حجرتي بخيبة المخدوع بزيف المشاعر، ثُمَّ تناولت هديةً خبأتها لأفاجئها بها، أخذتُ ورقة وكتبت فيها فيض شعوري لأخفف عن نفسي: “عزيزتي، أعلم أننا تعايشنا بسلام رغم الاختلاف، وأطلب السماح إن أزعجك شيء منّي، فما أَتَيتنِي لِتَسمعيني وأُفهمِك، وما أَتَيتُك لأطلعك على ما أزعجني لتقديري مَشَاغلك، وإن سمعتي ما لم تعهديه مِنّي فاسْأَليني، وإن لم تَسألي فلا تَظلميني، يا زَهرة في غربتي وبلسمًا لحنيني، أنا لست مِمّن لا يَقبل النُصح، ولَم تَعهدي من مَنطقي القُبْح، وإِن لَم تَسْتَوعبي كَلِمَةً ألا سَألتني الشَرح؟”.

إِنّي اكتفيت مِنَ الآلام تُوجِعني، وَمن انتظار مُقْبلٍ يأتي يُعزّيني.. إنّي اكتفيت الدمع جمرًا يحرقني، وأنين فؤادي يضنيني.. إنّي اكتفيت من صبري ومن حسن ظنّي، وخلق عذر لكلِّ حبيب يؤذيني.. إنّي اكتفيت من كل سائل، وكل عابر بغير حق يجافيني.. إنّي اكتفيت من كل وهم يراودني، ونفاق مدعي الدين.. إنّي اكتفيت بالرحمن ربًا أعبده، رحيمًا يراني أضلُّ فيهديني.. بهِ اكتفيت ضعيفًا مسّني الضرُّ، ومن لي سواه مغيثّا يقوّيني.

إنّي اكتفيت…

حاولت أن تبرر لي بعد فوات الأوان، فذاك العام الجميل الهادئ مرَّ كأنه لم يرَ الهدوء إلَّا سرابّا بسبب سوء فهم وسوء ظن. وأخيرًا، انتهى عقد العمل والدراسة، وكان فراقنا أمرًا حتميًّا، غادرت كلٌّ منّا لعالمها، لتعيش عزلة هادئة وسط عواصف أحداث، ذكرياتٌ حلوة لكنَّ طعم المرارة الأخير أفسد حلاوتها، وهكذا التقينا في البيت الكئيب.

أمّا وداعنا، فكان باهتًا ذابلًا، اكتفينا بحضن وتبادل أمنيات، وافترقنا كأغراب، فراقًا يوحي بأنَّ الانتماء للأماكن فقط، لم أنسَ هدية الوداع التي اشتريتها لوادعٍ كنت أظنه مريرًا، ولم أرفق معها عتابي وكأنني أطوي فصلًا كُتبت نهايته بغير توقعاتي، وأدركت أنَّ الحياة ليست مشاعر فقط بل مصالح.

هكذا سنمضي وكلانا سيقصُّ المشهد ذاته بطريقته، قد تكون في شدة تخفيها فتظهر على ملامحك، وتتجسد في شرود ذهنك، حينها ستحتاج من يحتويك وأحمالك من الهموم.

ستحسُّ بالغربة فهذه هي الحياة، تارة مريرة وتارة حلوة سعيدة. تأتي صعبة مُرّة قاسية، تلفح أفئدتنا بوحشة الوحدة، نسير في دروبها، نسعد فيها ونحزن، نضحك فيها ونئن، تبتسمُ لنا فنلحقها، ثم تكشر في وجوهنا فنكرهها. ويبقى أجمل ما يحلّيها وجود الصديق الصدوق، فهو من سيحضنك فرحًا وحزنًا، وهو من سيفتقدك ويشتاق إليك، إلى صوتك وضجيجك، إلى فوضويتك وثرثرتك الفارغة قبل الهادفة، سيشتاق إلى صوت ضحكاتك الهستيرية، اختر قطعة سكر تذوب لتُحلي مرارة الأيام، أو لتضيف متعة على حلاوتها، اختره صديقًا لا يجافي ولا يجامل، يحتويك ولا يجامل، يحتويك ولا يتخاذل، يبحث عنك حتى لو هجرت الأماكن. إن أخطأت الاختيار لا بأس! انهض وابحث عمّن يسمعك بلا حديث ويفهمك بلا تفسير، ولا تحتاج معه إلى تبرير، وإن وجدته احتفظ به في سراديب روحك، واحفظه بدعائك، ولا تطلق سراحه لسوء فهم أو اختلاف رأي، ولا تغلق معه باب الحوار، فالعالم حولنا صار موحشًا يقتات فيه الكل على الكل، ولم يتبقَّ إلَّا فتات أراوح، إمّا تائهة في عالم الفوضوية، أو منعزلة في عالم الذكريات.

مقالات ذات علاقة

أنتِ الحسن

فيصل عبدالمولى بوزكرة

تمثيلية

المشرف العام

نـغـم الأقـحـوانـة

المشرف العام

اترك تعليق