من أعمال التشكيلية الليبية .. مريم العباني
المقالة

دوائر الطاعة

Maryam_Abani_01

تقديم

إحلال مفهوم الطاعة، بديلاً عن مفهوم المشاركة من وجهة نظري، يبدأ بالمرأة لكنه لا ينتهي عندها، فأن تجعل من المرأة مخلوقاً مستلباً، مطواعاً، هشاً وخائفاً، عاجزٌ عن الاستقلال بذاته، محفوفٌ دائماً بشبهة الوقوع في الرذيلة، إن بقي خارج تلك الدائرة، سيُسّهل كثيراً من آلية عمل ذلك المفهوم، مع ذوات أخرى غيرها، كالرجل، والطفل، والتلميذ، والمواطن… ألخ.

ودوائر الطاعة كلها، تتغذي أكثر ما تتغذى، على الاستبداد ذو المنشأ الديني، وإن كنت لا أنكر وجود أشكال أخرى من الاستبداد، تكرّس لمفهوم الطاعة كبديل عن مفهوم المشاركة، بل إنني أقرّ بوجود منظومات أخرى، تعمل عملها في تسفيه المرأة، وإعدادها لتكون مخلوقاً إتكالياً، رخواً، خائفاً من الاستقلالية، كمنظومة الأعراف والتقاليد ذات الملمح البدوي، تنسحب على الحاضرة، وتلُقي عليها بالكثير من الظلال، بدل أن تتطبّع بطباعها، وتخلع عنها جلافتها، ولن أغفل دور الاستبداد السياسي، الذي ربض على قلب كل الدول العربية لعقود طويلة، وكذلك الجهل، وتفشي الأمية، والفقر، الذي يدفع بالمرأة إلى القبول بالاسترخاص، من أجل سد رمقها، لكنني سأركز هنا على أهم رافد من روافد تكريس الطاعة، وهو الاستبداد الديني، نظراً لحضور الدين الطاغي، في الحياة اليومية للمجتمع المسلم، ولتشابك العادات والتقاليد غالباً بالدين، ولتنامي خطاب تعزيز هذا المفهوم بالمجتمعات الإسلامية، ومنها المجتمع الليبي.

المرأة شر لابد منه

لنبدأ بتفكيك الحديث الشريف، الذي لم ينته إصحاح واحد من الإصحاحات المشهورة تقريباً، حتى ضمه بين دفتيه، والذي تعتبره معظم من يهاجمنني من النساء، على أنه من الأحاديث التي يُستدل بها على إعزاز الإسلام للمرأة، وهو قوله عليه الصلاة والسلام: “من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن، كن له ستراً من النار” أو الذي يذهب إلى أنه: “من عال جاريتين (أي ابنتين)، حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم إصبعيه الوسطى والسبابة”، ومفهوم المخالفة لهذا الحديث، أن من عال غلامين، لن ينال تلك الدرجة من الرفعة، بمزاحمة النبي على باب جنته، وإن كان سيؤجر على ذلك من غير شك.

وقد ورد الحديث الأول بلفظة “ابتلي” والابتلاء في اللغة والعرف، ليس أبداً النعمة، أو الرغد أو الرخاء، بل هو المحنة، والمُصاب العظيم، والفتنة، والاختبار العسير الصعب، كما جاء الثواب في الحديث الثاني مغرٍ جداً وعظيم، وهو مزاحمته عليه الصلاة والسلام، على جنة الفردوس، وهي أعلى طبقات الجنان، خص بها سبحانه، عباده الذين كابدوا مشاق لا حصر لها، أو اختُصوا ـ دوناً عن غيرهم ـ بابتلاءات لا يحتملها إلا ذوي العزائم منهم، والمشقة التي يكابدها معيل الابنتين هنا، هي الجهد العظيم لصرفهما عن طبيعتهما، فالابنة الواحدة هي هم وبلاء، وشر كامن وعار لابد متحقق، فما بالك باثنتين، وهن همٌّ على هم، وعار على عار، وفحش على فحش، فإن تعهدهما أحسن تعهد، حتى كبرن، أدخله الله بهن الفردوس مع النبي “شخصياً، ومَنْ أعلى درجة وأرفع مكانةً في الجنة من سيد الخلق؟!

انتبهن، فالتمرد ينتهي إلى جهنم

أما الأحاديث الشريفة، الأكثر تداولاً في توجيه المرأة نحو الطاعة، ودفعها نحو التبعية، هي التي رسمت لنا مصيرها يوم القيامة، وقد جاء أحدها يوم أُسري بالنبي عليه الصلاة والسلام، فقد ورد أنه حين أُسري به، قد اطّلع على جهنم، فرأى أن غالب أهلها من النساء، ما دعاه لأن يُلقي لهن بخطبة مخصوصة، قال فيها: “تصدّقن معشر النساء، فإني رأيتكنّ أكثر أهل النار، فقلن ولمَ يا رسول الله، فقال إنكن لتكفّرن العشير، وتكثرن اللعن”، وهو حديث لم يُختَلف حوله من 15 عشر قرناً حتى اللحظة، حتى ليبدو أن واقعة الإسراء نفسها، كانت فقط لتقرير مصير النساء المتمردات.

وقد حاولت كثيراً، أن أعرف لمَ يبدُ أن المرأة في الإسلام، موعودة بنار جهنم تصلاها وبئس المصير، من قبل حتى أن تُخلق، فطالعتني تفاسير قديمة للأئمة الأربعة وتلاميذهم، مازل يرددها فقهاء الأزهر والزيتونة والقرويين بوقتنا الحاضر، وكررها ابن باز وابن عثيمين وابن فوزان… الخ، وهو أن سبب ذلك، إنما لنكران النساء لجميل أزواجهن عليهن، بعصيانهن لهم وتشاجرهن معهم، رغم النفقة عليهن ورعايتهن وحمايتهن والقيام على شؤونهن.

غير أنني اهتديت إلى أحاديث مغايرة، تقول أن النساء هن غالب أهل الجنة، وليس النار كما قد يُفهم، حين اطلعت على أحاديث حور العين، فقد جاء عن معاذ بن جبل عن النبي أنه قال: “لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا، إلا قالت زوجته من الحور، لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو عندك دخيل، يوشك أن يفارقك إلينا”، هذا وثبت في جميع الصحاح بروايات مختلفة الألفاظ، أن لكل رجل في الجنة امرأتان من الحور العين، وهو الحد الأدنى المتفق عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: “ما في الجنة أحد إلا له زوجتان ليرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة، ما فيها من عزب”، وكلما كان الرجل صالحاً في الدنيا، كلما تضاعف عدد نسائه من الحور العين، ولعل الجميع يعرف أن للشهيد في سبيل الله، ثنتان وسبعون امرأة من الحور العين، لقوله عليه الصلاة والسلام: ” للشهيد عند الله ست خصال: ….. ويزوَجُ اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ….”، أما الحديث الأدهى من ذلك والأمرّ، فهو الوارد بصحيح البخاري، وغيره من الإصحاحات عن الحور العين: “إن قُمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله، وإن السحابة لتمر بهم فتناديهم: يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم؟ حتى أنها لتمطرهم الكواعب الأتراب”.

وزواج الرجل بالحور العين في الجنة، ثابت بألفاظ قطعية الدلالة في القرآن الكريم، بسورة الطور الآية 20، والدخان 54، والبقرة 25، وسور أخرى كثيرة، سواء كانت زوجته في الدنيا صالحة، أم لم تكن كذلك بالمرة.

ومعنى هذه الأحاديث، أنه طالما أن لكل رجل صالح زوجتان من الحور، والعدد مرشح للإرتفاع، بحسب الصلاح في الدنيا، حتى يصل إلى ثنتين وسبعين حورية، هن “خص نص” للشهداء في سبيل إعلاء دينه سبحانه وتعالى، وبجردة صغيرة لا تحتاح حتى لورقة وقلم، فإن كل رجل صالح في الدنيا، ستقابله اثنتان من الحور العين، ولكل شهيد من شهداء هذه الأمة، مذ حل فيها الإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها، إثنتان وسبعون، فسيمكن لنا تخيل حجم النساء في الجنة، وإنه لرقم مهول بحق، ما يعني أن معاشر النساء، هن غالب أهل الجنة والحمد لله.

لكن مهلاً! فأن تكون النساء من غالب أهل الجنة، وهن الحور العين، أو من الأقلية، وهن نساء أهل الدنيا، فإنه يجب أن نعرف كيف يمكن ذلك، حتى لا تفوت الفرصة على من تريد الرضوان، وأجزم أن مفتاح السر في هذا، قوله عليه الصلاة والسلام، في حديث عرفَته معظم كتب الصحاح إنه: “حق الزوج على زوجته لو كانت به قرحة فلحستها، أو انتثر منخراه صديداً أو دما ثم ابتلعته ما أدت حقه”، وآخر جاء فيه: “ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم،… وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط،….”، وقوله أيضاً: “إذا صلّت المرأة خمسها وحصّنت فرجها وأطاعت بعلها دخلت من أي أبواب الجنة شاءت”، وفي حديث آخر: “والذي نفس محمد بيده، لا تؤدّي المرأة حق ربها، حتى تؤدّي حق زوجها”، ولعل الحديث الأكثر ذيوعاً بين الرجال قاطبة، والذي يحفظونه عن ظهر قلب، أكثر حتى من سورة الإخلاص، هو: “لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها”، ومفتاح السر المقصود هنا، أن تصير المرأة جارية لزوجها، أَمة ذليلة، مطيعة، خانعة، صموت، لا تشتكي، لا تثور غضباً ولا تحتدم، لا تنبس ببنت شفة، عن شيء في حياتها معه، ترضى بما يمتن به عليها، تكون دائماً على أهبة الإستعداد لتلبية غرائزه، وإلا لعنتها الملائكة الطيبة حتى تصبح، وتصبر لله وتحتسب إن أراد الزواج عليها، تنصاع لمشيئته بإنجاب العدد الذي يريده من الأطفال، تحاول قدر الإمكان ألا تمرض أو تقع فريسة الإجهاد، وإلا سقط حقها في النفقة، لتوقف حقه في التمتع بها عن السريان، فكل دارس لحقوق المرأة لدى الفقهاء الأربعة، يعرف أنه في المشهور من مذاهبهم، قد ذهبوا جميعاً إلى أن الزوج غير ملزم بالنفقة على زوجته حال مرضها، لأنه بمرضها سينقطع الاستمتاع بها، وسيتعطل حقه في المتعة الجنسية معها، وله هنا أن يردها لأبيها، الذي تسلمها منه صحيحة معافاة، كي يعالجها ثم يردها إليه، كما تسلّمها منه، عفية، فتية، قادرة على الجماع، ويدخل في هذا الباب، أجرة تكفينها وتغسيلها ودفنها، فلا يجب على الزوج دفع شيء لقاء تغسيل زوجته، وتكفينها ومواراتها التراب، لأنه بموتها انقطع حقه في التمتع بها، وإن كان المشرع الليبي قد فعل خيراً، حين أخذ برأي ضعيف، خالف الأربعة المذكورين، بإلزام الرجل بالنفقة على زوجته في الصحة والمرض، والتكفل بتغسيلها ودفنها، بالقانون رقم 10 لسنة 1984، بشأن الزواج والطلاق وآثارهما.

وحين يرضى عنها زوجها بالدنيا، فإنها تنتقل في أُخراها للجنان، كي تصير جارية أخرى بمرتبة تعلو حتى على حور العين، اللاتي أنشأهن الله إنشاءً من غير ولادة، خصيصاً لإمتاع عباده الصالحين، وهن نسوة كواعب، مغناجات، مطروحات على سُجُد من ديباج، في خيام كأنها اللؤلؤ، جاهزات دائماً للمضاجعة، لا يمرضن، لا يحِضن، لا ينفُسن، لا يذهبن لأهلهن لحضور عرس أحد من إخوتهن ويبقين حتى “الأسبوع”، ولا يذهبن لعزاء أحد أبويهن، ويمكثن هناك حتى “الأربعين”، فهن مخلوقات فقط للمتعة، متاحات دائماً حين يعن للرجل أن يأتيهن.

أما علة ثبوت عِظم حق الزوج على المرأة، وأنه لن يكون بمقدورها أن تفيه حقه، ولو لعقت كل الإفرازات، التي تنز من فتحات جسدة، وكل الصديد والقيح الذي ينتج عن جروحه المنتنة، فهو ليس لمحض النفقة، والسهر على شؤونها كما يزعم الفقهاء، فالمرأة مذ خلقت، وهي تساهم مع الرجل في الحقل، بالزراعة، والحصاد، وتحميل الدواب، وطحن الحبوب، وهي تختص وحدها ـ تقريباً ـ بأعمال البيت وما يتطلبه من خدمة، وتستأثر وحدها تماماً بتربية الأطفال، وتعليمهم، وملاحظتهم، وخدمة الضيوف، وهي في العقود الأخيرة، ساهمت معه في رفد الأسرة، بالعمل معه خارج البيت، حتى أنها تنفق وتدخر، وقد يكون لها دخل أعلى من دخله، وفي أحيان أخرى يكون هو عاطل يتطفل عليها، فليس هذا هو السبب مطلقاً، بل لمحض أنه بزواجه منها، قد ستر ذلك العار الكامن فيها، وقبض إليه وحده فتنتها المشهَرَة في وجوه الخلق أجمعين، واختص وحده بحبائلها وخدائعها، ولواعج نفسها الأمارة بالسوء، وضم إليه ذلك المخلوق الذي يقف الشيطان أمام كيده تلميذا نجيباً، والذي لولا زواجه بها، لعاشت كعاهرة، ولاسترخصها الرجال “الذئاب” واستغلوا حاجتها، أفليست من صويحبات يوسف كما قال النبي، وألم يأتِ في الصحاح أنها: “عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان، وأنها أقرب ما تكون لوجه ربها في قعر بيتها” وآخر: ” وغير هذا كثير في صحيح مسلم والبخاري، والنسائي والترمذي، وابن ماجة، وأبو داوود.،، ألخ، وفي كتب السيوطي وأبو حامد الغزالي وغيرهم.

إنتاج الأطفال لا الأفكار، مجلبة للجنان

امرأةٌ تحمل يقيناً أنها ابتلاءٌ من الله لأبيها، ومن ثم لزوجها ولسائر مجتمعها، وأن وجودها بحياة أحدهم محنة، تستوجب الصبر لنيل الجنة، وأن الله لن يرضَ عنها بحال، ما لم يرضَ عنها زوجها، وأنه بزواجه منها قد امتن عليها، فلابد من أن تصير أداةً لنقل هوانها لأولادها، وبهذا تنشأ ثاني دائرة من دوائر الطاعة، والفرق هذه المرة، أن المرأة نفسها هي التي تطبقها على الآخرين، فوظيفتها المختزلة في إنتاج الأطفال، تمنحها عزاءً منقطع النظير، إنه الجنة التي تربض تحت قدميها، وأنها الأحق بصحبة ابنها من أبيه، كما جاء بالحديث الشريف، حين أخبر النبي سائله بمن أحق بحسن صحبته، فقال أمك، وكررها ثلاثاً، وهي هنا تجد أخيراً رجلاً واحداً، يمتن لها ولا يمتن عليها، كما تمتن هي لأبيها أنه أحسن إليها رغم طبيعتها، وشرور نفسها، وكما تمتن لزوجها الذي لو أُمرت بالسجود لأحد غير الله، لسجدت له هو، دوناً حتى عن أبيها، الذي هو سر وجودها بالحياة، وبهذا، فليس ثمة داعٍ ولا حاجة، لأن تنتج فكراً، أو تُعمِل عقلاً، فعقلها مبتور وناقص، أليست كما قال عليه الصلاة والسلام: “….، وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي اللب منكن…”؟!

تتالي الدوائر واحدة بعد الأخرى

ستمهد الآن دوائر الطاعة، التي أحكمها المجتمع حول المرأة، وأحكمتها المرأة حول ابنها، ستمهد الطريق أمام الدخول في دائرة جديدة من الطاعة، مسورة كالعادة، بالكثير من القداسة والتبجيل، والتخويف بالفتن والتهديد بالخلود في النار، كما في كل دائرة طاعة مرت بنا، وهي هنا طاعة العلماء والفقهاء والمشائخ، فالعلماء يقدَمون على أنهم ورثة الأنبياء، لقوله عليه الصلاة والسلام: “إن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورّثوا درهماً ولا ديناراً…” أو كما يرد كثيراً ودائماً، إنهم تاج رأس الأمة وغرة جبينها، فالعالِم يصير وفقاً لذلك وريثاً للنبي، الذي زهد في الدنيا وعزف عن متاعها وزخرفها، ولم يترك ورائه غير الفقه والعلم، ما يعني أن العالمِ، هو الوحيد الموكول إليه، أمر تعريف الدهماء بهذا الدين، وتبصير العوام به، ويكون على المتلقي أن يسلّمه قِربة رأسه الفارغة، كي يملأها الشيخ، بعلمه واجتهاده في المحدثات وهي قليلة، لأن كل محدثة بدعة كما نعرف، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

هؤلاء طاعتهم واجبة، تفترض دائماً الإقبال لا الإحجام، وتفترض الإجابة لا المحاججة أو الإعتراض، وتستنكر الخروج عليهم أو معارضتهم، في شأن من الشؤون تدخلوا فيه، وتمنع الطعن في اجتهاداتهم، أو أحكامهم، لإنها الأحكام التي يُفترض أن النبي نفسه كان سيصدرها، وبهذا تصير مخالفة العالِم هي مخالفة النبي، رغم ما يقال أنه لا كهانة في الإسلام.

وأخشى أن تفشي الإعلام الديني بمختلف الفضائيات، التي تعمل على مدار الساعة، بأحدث المؤثرات، وأعلى جودة، وأكبر امتداد، هو تجسيد لما قلته كله، فهي تسوّق لإطباق فكر أصولي يرفض الإقامة في الحاضر، لأنه لا يستوعب المتغيرات التي طالته، في التكنولوجيا، والإدارة، والتفكير المستقل، والمتطلبات، ولأنه تحديداً، لا يحوز على شروط تؤهله للتعامل معه، فهو يعيش بكهفه الخاص خارج الزمن، يستعيد أمجاد التاريخ، والاستبسال في تعدد الزوجات، وهو فوق ذلك إعلام رث، يقدم فتاوى استهلاكية على الهواء مباشرة، تحت الطلب وفوقه، تنفذ إلى كل صغيرة وكبيرة بحياة المرء، بدأً من دخوله المرحاض بالرجل اليسرى، مروراً بحكم الدين في أفلام الكرتون، وانتهاءً ببيان حكم المُستحاضة، يُقبِل عليها الرجال والنساء، مسلّمين عقولهم لكل من أرسل لحيته، أو سمعوه يبسمل أو يحوقل، متلذذين بحالة الخمول الذهني والتخثر الفكري، التي يوفرها لهم شيوخ الفضائيات، حين يقبلون على استهلاك فتوى جاهزة، غالباً ما يعود أصلها لألف عام خلت، ما عادت تصلح ـ أحياناً ـ لأي زمان ولا أي مكان، ولا أي قوم حتى سكان الأدغال، بدل أن يبحث أحدهم بنفسه، ويقرأ دينه بنفسه، متكاسلين عن الاطلاع على منظومات ثقافية وفكرية أخرى، يتيحها الانترنت، والمكتبات، والبرامج العلمية والوثائقية، والقراءات الحديثة للدين والتاريخ والواقع.

ومن طاعة ورثة الأنبياء، إلى طاعة العبد للسيد، حد أن تمرُده عليه، يحيله تماماً لذات الوضع، الذي يترتب على معصية المرأة لزوجها، فلا تُقبل منه صلاة، ولا ترتفع فوق أذنيه شبراً واحداً، وفي الآخرة يكون من الهالكين في نار جهنم، عبدا آخر في قعر الجحيم، لقوله عليه الصلاة والسلام: “ثلاثة لا يقبل الله لهم صلاة ولا يصعد لهم إلى السماء حسنة العبد الآبق حتى يرجع….”. إلى أعظم دوائر الطاعة في الإسلام قاطبة، وأكثرها كثافة وحضوراً على الإطلاق، في الخطاب السلفي المعاصر، وهي طاعة ولي الأمر.

ويمكنني هنا أن أسوق خمسمائة حديث شريف على الأقل، لبيان عِظم شر عدم طاعة ولي الأمر، وبيان مفاسد الخروج عليه، ولعل البعض يعرف الكثير عن إسهامات ابن قيّم الجوزيّة، وشيخ الإسلام ابن تيميّة، في شأن وجوب طاعة ولي الأمر، وحرمة الخروج عليه ولو كان فاسقاً، ظالماً، مستبداً، منتهكاً للأعراض والحرمات، لِما في ذلك من حقن للدماء، وتسكين للدهماء، وتفريق بين الراعي والرعية، واتقاءً لشرور الفتن، وتفرق الجماعة، وإن كان الضمير السني لفقهاء السلف، يجوّزون مخالفة ولي الأمر، في حال خرج عليه ثلثا الأمة، فيصير لزاماً حينها خروج الثلث الباقي، وافتكاك ولاية الأمر منه، ذلك أن الفكر السلفي، مازال يستروح قيم القرن السابع الميلادي، حين كانت الخلافة تنتقل من صهر لآخر من أصهار النبي، ومن صاحب لآخر من صحابته، بتأييد عدد آخر من الصحابة رجال الدين، يديرون دفة انتقالها ويرعون استمرارها فيهم، دون الانتقال إلى مفاهيم العصر الحديث، التي ألغت مفهوم طاعة ولي الأمر من أساسها، واستبدلته بمفهوم العقد الاجتماعي وصناديق الانتخابات، وأحلت مفهوم الموظف العام، محل مفهوم ولي الأمر، وفرضت إسقاطه بإقرار مجموعة تدابير وقوانين وضعية، تستهدف سحب الثقة منه، وتسليم سلطاته وصلاحياته لموظف آخر، يدير البلاد لفترة انتقالية محددة، تعود بعدها صناديق الانتخاب، لتحدد من هو الموظف الحاكم، دونما حاجة لإراقة دم برغوث حتى، فما بالك بإنسان، كما جرت العادة مثلاً في هولندا، المعروفة دولياً بكثرة سقوط رؤساء وزراءها، دون أن يلحظ الهولنديون أنفسهم، أي قدر من التغيير في شؤون حياتهم اليومية، لأن أحداً لا يخوّفهم من الله وجحيمة، التي أُعدت لكل طبقات المجتمع، إن هم أسقطوا رئيس الوزراء.

الخلاصة

إن تدجين المجتمع، بإطباق حلقات الطاعة حول عنقه، وتعويده على الخضوع والاستكانة، للزوج، للأب، لشيخ المسجد، للسيد، لولي الأمر، بسبب سياسة العصا والجزرة، التي يُجيد الإسلاميون تقديمها لمجتمعاتهم، بتخويفهم من نار جهنم، وإغرائهم بجواري الجنة، من نساء الدنيا وحور العين، والتمتع بصحبة النبي في الفردوس الأعلى، بهدف السيطرة عليه وتركيعه، إنما يستهدف تقويض مفاهيم الاستقلال، والفرادة، والتميز والاعتراض، والمشاركة، وإبدالها جميعاً بمفاهيم الطاعة، والمذلة، والهوان، ما سيفضي ولابد، إلى تنميط المجتمع بأسره، وسكبه ضمن قالب واحد، وذوبان كل ذواته في قطيع من البشر، بليد، خائف، مضعضع، كسول، فاقد للثقة بنفسه وقدراته، يُساس بـ”الشكاكيم” لا بالقوانين العصرية، وقيم المساواة والمدنية، والتحضر، وأن المرأة بالذات، هي الحلقة الأهم بالنسبة إليهم، في سلسلة الخاضعين المستلبين، لأنها القادرة ببراعة، على أن تنقلها لطفلها، فتنشّئه من البداية، مستبداً وقابلا لتلقي كل الأنواع الأخرى من الاستبداد، وستكفيهم مؤونة نفسها، حين يلمسون خنوعها وهوانها، بإقناعها أنها عورة، وأنها شيطان يسير على قدمين، وأنها تستحق كل أشكال التبخيس التي تتعرض لها.

مقالات ذات علاقة

الشماعة والتناقضات الليبية

ليلى المغربي

نقد نقد التفكير البعدي

جمعة بوكليب

رياحين العيد

زهرة سليمان أوشن

اترك تعليق