” أول قصة ليبية نشرت عام 1936 في مجلة ليبيا المصورة “
اجتازت السيارة المدينة وانسابت بين الحقول والمروج الخضراء في طريقها الى ( المرج ) تحمل بين جانبيها العروس ، وقد تبعها سرب من السيارات مشحونة بالاطفال والنساء .
وكان المساء جميلاً والهواء عليلاً وقد نفض القمر الغيوم عن وجهه وأسفر ضاحكاً كأنما أراد أن يشارك القوم في سرورهم وأهتز النخيل وإشرأب جريده ليحيي العروس ، وقد أمتزج ضحك النساء ولغطهن بصوت المحرك وصياح الاطفال وسرورهم فكان حقاً منظراً جميلاً أخاذاً انبسطت له أسارير الجميع ما عدا خليل سائق سيارة العروس ، فأنه ظل ماسكاً بآلة القيادة عابس الوجه متحجر المآقي ، كالصنم لا يشعر بما يحيط به من جمال الطبيعة الفاتن ولا بسرور القوم المرافق لهم … لقد سبح في بحر أفكاره وذهبت به الذاكرة الى ما وراء عشر سنين عندما كان مجاوراً : كانت زينب آذاك في العاشرة من عمرها وكان هو يكبرها بعامين ، كانت أواصر الصداقة مرتبطة بين أسرتيهما ، فنشأ الطفلان كأخوين لا يفترقان عن بعضهما ، فارتبط قلباهما الصغيران برابطة الصداقة والود ، رابطة الطفولة التي لا تنفصم عراها مهما مرمن السنين ومهما كانت مدة البعاد .
لقد كان يخشى عليها من كل شئ ويرعاها ويحوطها بعنايته كأنها شئ يخشى تلفه والويل كل الويل لمن كدرها من الأطفال أو رفض لها طلباً … لكم كانت تشع عيناه ببريق السرور وعندما يراها سعيدة وكم تألم لألمها وبكى لبكائها حتى تعجب أفراد الأسرتين من أمر الطفلين ومن ودهما المتبادل الغريب ..
وبعد ثلاث أو أربع سنوات بدا له شعوره نحو زينب غريباً ليس كشعوره الأول ، فقد كان يود الإكثار من مجالستها واستماع حديثها ، ويكثر من إطالة النظر إلى جسمها الغض الذي بدأت تتفتح أنوثته ، ولكنه لم يدر أو يقدر كنه هذا الإحساس الغريب إلا بعد أن حجبت عن نظره كعادة أهل البلدة .. هنالك شعر أنه يهواها وان حبها قد تمكن من قلبه ، ومرت سنون لم ير في أثنائها زينب إلا مرة واحدة وفي لحظة خاطفة أثارت ما كان كامناً وأضرمت نار الهوى بأحشائه فأقسمت أن لا تكون لسواه واقسم هو أن لا يكون نصيبه غيرها …
اجتازت السيارة توكره وبدأت في الصعود على عقبة ” الباكور ” .
وعاد خليل إلى ذكرياته … توفى والده وترك ثروته الطائلة طمعة للدائنين وخلف عائلته الكبيرة ميراثاً له .
فذهبت أحلام الشباب الذهبية واندكت قصور الآمال فهجر المدرسة ووجد نفسه أمام الحياة وجهاً لوجه ووقف حائراً ذاهلاً : هو لا يعلم من أمور الدنيا شيئاً وليس لديه ما يدفع به غائلتها وقد وجد نفسه أمام عدو كاسر صعب المراس لا عهد له بصراعه ونضاله … فعرف الفقر والفاقة وشظف الحياة ومرارة العيش ولم تفده علومه ولا أصدقاؤه ولا شرف عائلته شيئاً ، طرق أبواب الرزق فوجد اغلبها مسدودة في وجهه فكان يكد ويتعب طيلة يومه نظير بضعة فرنكات يقترها على عائلته البائسة … وآلمته هذه الذكرى ، لقد كان يظن أن الجراح بدأت تندمل وان يد النسيان قد تمسح حبها من صدره ، ولكن ها هي الذكرى تمزق هذا السمك الرقيق وإذا بالجراح تنفتح فتمتم بصوت خافت : لطفك يا رب .
نعم لم ينسها في فاقته وآلمه ومتاعبه ، لقد كان يفكر فيها عندما يخلو بنفسه فيمسك برسمها وهي طفلة يقلبه بين يديه ويقبله في مناجاة ذليلة فكثيراً ما أوصد على نفسه باب حجرته وأخرج الصورة من حافظة أوراقه ونظر إليها في لذة ونشوة وسرور ، فيناجيها بألطف الألفاظ وأرقها ويتنهد طويلاً ثم يعيدها إلى مكانها وهو لا يدري شيئاً عن مصيره الغامض – لقد توسعت ثروة أبيها وأصبح ذا مركز في المدينة وقد رآه مراراً ولكن كان تفاوت مركزهما أسدل ستاراً كثيفاً على تلك الصداقة التي كانت بين العائلتين فتجاهل خليلاً وأنكر أمره … كم كانت تؤلمه هذه الخواطر حينما ينتهي في تفكيره إليها فكان يجتهد في أن يسلو زينب وينسى ما كان بينهما ويقنع نفسه بعدم التفكير فيها ، ولكن دون جدوى ، فقد تمكن حبها من قلبه فهو يعيش ويكد معلقاً نفسه بخيوط من الأماني لعل القدر يبتسم له يوماً فيكسب ثروة أو مركزاً يؤهله لأن يتقدم خاطباً لها ، ولكن أواه ما أشد سخرية القدر عندما يناوئ مخلوقاً : ها هو الآن يشتغل سائق سيارة عمومية يصحب عروساً إلى عريسها لا بأس ، صحبة جميلة وأجر باهظ ، ولكن هل كان يدور بخلده أن العروس هي زينب فاتنة لبه ورفيقة صباه ونور آماله ؟ هل كان يدور بخلده أن القدر سيجعله هو بشخصه سائق سيارة زفافها ؟؟ هذا ما لم يكن في الحسبان .
وأفاق من ذكرياته على رؤية سيارة قادمة ، فأفسح لها الطريق وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي وتذكر أن زينب الآن معه في سيارة واحدة – ورفع نظره صدفة إلى المرآة المعلقة أمامه فرأى انعكاس شخصها في المرآة لكم تغيرت ، ليست بزينب الصغيرة الوديعة ، أنها الآن امرأة جميلة فاتنة ذات جسم رشيق وعينين عسليتين وأنف أقنى وبشرة بضة يعلوها قليل من السمرة وكأنما شعور غريب جعل زينب ترفع نظرها إلى المرآة المعلقة أمام السائق ، فتقابلت نظراتها بنظرات خليل وكأنها عرفته فاهتز جسمها هزة سريعة وشخصت عيناها في عينيه وعلا وجهها اصفرار شديد فاستندت إلى إحدى رفيقاتها إعياء – ونظرت من جديد إلى المرآة فقابلت نظرة الحزين ، لقد كانت عيناه تنطق بما في ضميره ففهمت أنه يؤنبها ويذكرها بقسمها بين يديه وفهم هو عينيها أنها تستغفره ذنبها وتذكره بعجزها وبسلطان أبيها الجائر عليها ، فنزلت الدموع من عينيها في آن واحد .
وغاص خليل من جديد في أفكاره فتذكر أنه بعد ساعة على الأكثر سيوصل زينب الى منزلها الجديد – سيذهب بها إلى رجل آخر يحظى بها ، إلى رجل أكثر منه مالاً ربما لم تره في حياتها وربما كان أشيب كريه المنظر أو سئ الأخلاق فتقضي معه حياة تعسة .
لقد انتظر طويلاً وناضل وكد من أجلها والآن ؟؟؟ ها هي تزوجت ، وماذا تبقى له من سرور في الدنيا ؟؟؟ تسكعه بالسيارة أخر الليل أمام الملاهي والحانات في انتظار ما تلفظه من روادها ؟؟ وبدت له الحياة متعبة وثقيلة لا خير فيها ورفع نظره إلى المرآة فرأى نظر زينب مصوباً إليه وكأنها فهمت ما مر بخاطره فقرأ في عينيها بريق الحب الصادق – الحب القوي المتين الذي تمكنت جذوره في قلبها منذ الطفولة – هل نسته ؟؟ كلا ها هي تبكي أنها تعسة وهو أتعس منها ومستقبلهما أكثر تعاسة وشقاء ، إنها الآن معه وحياتها في يده – واستولت عليه فكرة مروعة هائلة ولمعت عيناه ببريق غريب ، بريق وحشي ما كادت تراه زينب حتى صرخت رعباً ، وكانت السيارة بأعلى الباكور .
ورؤيت سيارة العروس وقد نفذت بسرعة هائلة ثم عرجت فجأة عن الطريق وهوت بمن فيها إلى قاع الوادي ، وفي نفس الليلة حملت جثث زينب وخليل ورفيقاتهما إلى نفس المنزل الذي كان ينتظر العروس .