المبدع له قدرته على التعبير، يضفي للواقع واقع أخر أكثر عمقا وتفصيلا والأهم من ذلك يقول ما يشعر به الآخرون، يبقى السرد في القصص أقل وطئه من الحقيقة، تلزمنا القصة بالتأثر والبكاء، وبعض الألم الا محسوس، نلتهم تفاصيل السرد للفاجعة بكل برود، ولكن بهذه الأيام أصبح الموت حقيقه يقرع قلوب من نحب، نبكي بصدق لأن السرد واقعي، التفاصيل ملموسة والوجع نكاد نلتمسه بشكل خاص أوسع، وأكثر تفاصيلا.
وتبقى تجربة الألم التي كانت فردية حتى وقت قريب وأحادية، من حرب وجنود وشهداء، مرض وموت، حادث وموت، ولم نشهد موت المئات قبل أعواماً من الآن.
الكتابة بالنسبة للقصة تجربة استثنائية، والأكثر استثناء هو القراءة، نعم أن تحتار بين كاتب وأخر، بين من يصف الكارثة بسرد ممتع مقارب للواقع وما حدث وبين من ينفر سرده الحكاية، يميط التاريخ اللثام عن جائحة مرض لتبرز جائحة أخري لغيره، القصة ليست بالحديثة، لعوالم معروفة تناول الأدباء والكتاب الأوبية الأمراض في التاريخ الأدبي للقصص والروايات منها من برز وأصبح كوثيقة تقارب الاهمية من التقارير الطبية، ومنها من يهمل وكان أصابعه لم تكتب يوما حرف يذكر، المبدع له قدرته على التعبير، يضفي للواقع تفصيل وسرد وتاريخ وديمومة حدث والأهم من ذلك يقول ما يشعر به الآخرون في تلك المواقف والأحداث.
عن دار الحرف العربي، أخذت كتاب “الموت الأحمر” بين يدي وهو مجموعة قصصية للشاعر “إدغار الأن بو” وترجمة وتقديم الدكتور رحاب عكاوي، تحتوي المجموعة على ثلاثون قصة من أفضل القصص التي كتبها الشاعر السابق، مع تقديم طويل ومفصل عن مولد الشاعر القاص وحياته وتفاصيلها.
الثلاثيين قصة التي تتسم بالفلسفة الواقعية، والرمزية، والسرد الذي يعتمد على السارد اكثر من غيره، أعلم جيدا أن القصة فن خاص أكثر من الرواية، لذا فضلت “الموت الأحمر” عن غيرها من الروايات التي تتحدث عن الأوبئة التي قضت على الكثيرين، في القصة كل كلمة محسوبة وموزونة، بعكس الرواية ربما يرتكب كاتبها اخطاء فنية في نصه دون أن يلاحظ، هو وقراؤه وناقدوه كذلك، يعتبر النص في قصة “بو” مفتوحاً متعدد المعان مناسباً لأزمان مختلفة كون الأسقاط الرمزي في السرد يجعل اتاحت زمنية ومكانية القصة لا يرتبط بوتيرة معينة، غير أن بدايتها يخصصه القاص بالتفصيل عن المرض الطاعون.
رمزية الموت
في قصة ” الموت الأحمر- الوبيل أي الطاعون ” بو” يسرد القاص أحداث رمزية عن الخوف والهروب من الموت، الذي يتسبب في موت ضحاياه بشكل سريع وبشع من هنا يقرر الأمير ” بروسبيرو ” اللجوء الي دير شبيه بالحصن كان قد صممه بنفسه وأختار كل التجهيزات بحيث لا يمكن للمرض أن يطرق بابه ولا يصيبه هو أم حاشيته، متجاهلا ما يحدث للعامة من الناس في جملة واحد يتبين ذلك ” فعلي العالم الخارجي أن يعنى بنفسه “.
ويجمع القاص بين دفتيها شذرات من تيبس العواطف الإنسانية وخلوها من كل شيء، النجاة هدف الأمير وحاشيته في قسوة منهم اتجاه العامة من الناس، يستدرج القارئ الي عوالم ذاتية في احرف مشحونة، في إدانة معلنه للخذلان.
بعد خمسة أشهر من البقاء في ذلك الحصن يعتزم أقامت حفلة كبيرة، المعني هنا في تحديد الخمس اشهر، في تجسيد الغرور الانساني بضمان السلامة من الطاعون، هنا يتم إزاحة المعني من خلال اشارات البدء من جديد في غفله مفتعلة من السارد عن كنه ما يطويه الحفل من نهاية منصفه للغرور والجبروت والتجبر
” بينما كان الطاعون يفتك بالناس المقيمين خارج الدير فتكا ذريعا، عقد الأمير النية على إقامة حفلة مقنعة تكون آية في الأوبهة و الروعة “
الساعة الثانية عشر
التفكير في رمز الساعة على أساس أنها بدء للوجود وهي نسج الحياة، ودورة حياة الانسان كذلك ،منح رمز الساعة في القصة للكثير من المعاني، مرور الزمن ولم يخترق الموت الأحمر الحصن ولم يصب أحد من الحاشية، في رمز حول القوة للساعة، الفخامة والهيبة، دقاتها أنذرا بالنهايات يجسد النهاية في اسقاط على التوقف وعودة الدوران مجددا، يعد “بو” بعد محاولته كتابة الشعر أصبح يعي جيدا ان القصة فن اقتناص لحظة أو مشهد، ممزوجا ما بين الكتابة الرمزية والفتوغرافية، فهو يرمز ويصور، يضع الذات امام الجميع لتحقيق وجود مخلص لعالم مختلف، يتدرج ما بين الفلسفية والواقعة.
” وكانت الساعة الآبنوسية ترسل دقاتها بين حين وحين، فيصمت الجميع إلاهي.. فتتجمد الأحلام في رؤوس القوم الواقفين كالأصنام “
تدق الساعة الثانية عشر في الغرفة السوداء، ساعة الأبنوس في صورة مفردة للفعل ممزوج بجزئية البلاغ عن انسلاخ الزمن وانحسار الموت في المدينة ليعود الي الحصن المنيع ويخترقه، لأهمية الصورة التعبيرية الباحثة عن المعاني الدلالية، تدق الساعة وتصاب الحاشية بالذهول في أبعاد نفسية ذات معني اقتراب النهاية والموت الحقيقي متجسدا وشاخصا و لهذه الصورة دلالاتها المعنوية المستقلة فهي تحليل المجردات وتحويلها إلي شيء مرئي ومتذوق وفاعل تؤطر حواس المتلقي فالساعة كما في قصة “بو” ” يروح رقاصها ويجئ ثقيلا ،متكاسلا رهيباً… فأن رنتيها النحاسيتين ترسلان صوتاً موسيقياً جلياً… يحمل الموسيقيين عن التوقف ويسمر الراقصين في اماكنهم… تتكرر هذه الحالة كلما أعلنت الساعة الضخمة انسلاخ ساعة من الزمن “
” أعلنت الساعة حلول منتصف الليل.. تنبه معظم القوم إلي وجود شخص مقنع بينهم، فاستأسرتهم هيئته”
عجز الجميع عن البقاء، فلسفة الحياة تعلن عن واقعية الموت وحقيقته، الساعة، وغرف القصر المصطفة بطريقة فريديه، تمثل مراحل الحياة بألوانها وزخارفها وتوقعاتها فمهما بلغت ثرواتهم وسلطاتهم وحمايتهم، ينصف الموت الجميع فالعامة الذين اصابهم المرض الأحمر وماتوا بسرعة مذهلة بدون اهتمام من الأمير وحاشيته، ينصفهم القدر بانتهاء أجالهم بطريقة سريعة وجماعية وبشعة كذلك.
” توقفت الساعة الآبنوسية عن الحركة عند مصرع آخر فرد”
” وسادت المكان ظلمة حالكة وفناء دائم “
تاريخيا كان هنا..
حين يعتمد القاص على الرؤية الذهنية في تحقيق الهدف للوصول الي المعني الحقيقي، تأتي الأنزياحات المعنوية وفق الاختيارات التي تحدد الخيال الذي يقارب الواقع، التي تنطلق من نمو الحدث بتصوراته الحسية، و تجعل الخيال يجاور التطور المتوالي للفكرة أثناء خلق الاحداث.
هناك تقارب بين ما يسرده الروائيين المؤرخين والعلماء عن الأوبئة الطاعون مثلا مرض معد قديم تسبب في كثير من الأوبئة التي حصدت الملايين من الأرواح في العصور القديمة والوسطى، وكان يسمى بالموت الأسود نظراً لانتشار بقع نزفية منتشرة تحت الجلد من ضمن ما يحدثه من أعراض.
وسمي بالموت الأحمر في قصة “بو” عندما وصفة بشي من الدقة قائلا ” فاذا ما انتشرت البقع القرمزية على جسم الضحية عموما، وعلى وجهه خصوصا، ابتعد عنه الناس كما يبتعد السليم عن الأجرب، والمستغرب في أمر ذا الوباء أنه لا يتطلب للقضاء على المرء أكثر من نصف ساعة فقط “
تقول الوثائق ان أول ظهور لمرض الطاعون كان “1347” عودة الموت الأسود أو الأحمر أو القرمزي، أخطر قاتل على مر العصور، يتصف بالواقعية المفزعة، فتاريخياً لأكثر من “600” عام وكلمة الطاعون تنثير رعب شديد عن مرض لا يمكن ردعه، ولا علاج له، ولا مفَر من أن يموت صاحبه ميتة مؤلمة، الي أخر ظهور له في لندن او ما يطلق عنه ” طاعون لندن العظيم ” 1665-1666″ حيث الموت الاكبر.