هذه كلماتٌ بسيطة في حقّ صديقي الشاعر محمد الشلطامي والذي يعد واحدًا من أكبر شعراء الوطن. كان للشلطامي الفضل في بداياتي الشعرية.
دامت صداقتنا قرابة الأربعين عاما رغم المسافات التي فصلت بيننا ؛ عرفت الشلطامي عام 1969 ، وفيما شجعني على الفزاني على الترجمة كان الشلطامي خير ناصح لي في كتابةِ الشعر؛ كنا نلتقي في مكتب يعمل به وسط المدينة ، وبين الحين والحين في صحيفةِِ “الحقيقة” التي كانت مدرسة أدبية حقيقية شجعت العديد من الكتّاب الشبان الذين من بينهم الصديقين سالم الكبتي ومحمد المسلاتي.
لقد تعلمتُ الكثير من الشلطامي فهو كريم لا يبخل على الكتاب الناشئين بشيئ وله القدرة على جعل من يتحدث معه إنسانا محبًا للشعر وللكتابة
(1)
حين يتحدث الشلطامي عن الصوفية يحدثك في السبعينيات عن السهرودي (المقتول) وفي التسعينات عن ابن عربي لكننا في لقاءاتنا لم نتحدث عن الرومي ولا عن الحلاج قط ؛ ترى هل كان السهروردي محركا للشلطامي في شبابه فيما كانت حكمة ابن عربي تنتظره في سنواته الأخيرة؟ فالشلطامي يرى عصرَ الصوفية الحقيقي هو القرن الثاني عشر؛ كان السهروردي عند الشلطامي رمزا للثورة وابن عربي رمزًا للمحبة وللحكمة ، لقد كتب الشلطامي عن السهرودي الكثير لكنه في أحاديثه كان أقرب إلى ابن عربي.
والدارس للصوفية يرى أيضًا أنّ القرن الثاني عشر هو العصر الذهبي للصوفية ؛ ففي هذا القرن عاش ابن عربي والسهروردي وعطار والخيام ، والذين جاءوا قبل هؤلاء كانوا يميلون إلى الثورة والذين بعدهم مثل جلال الدين الرومي كانوا أقرب إلى المحبة والحكمة.
(2)
كانت صداقة الشلطامي قوية لا يضعفها البعدُ ولا الزمنُ . لقد انقطعتُ عن الوطن عشر سنوات وعندما كنت آتي لزيارة الأحباب في بنغازي كنتُ في كل مرة أزور الشلطامي برفقة صديقنا مصطفى الشيخي الذي كان جارا له.. كنا نلتقي عشيات الجُمع ونقضي ساعات في الحديث الذي كنا نبدأه بأخبار خطيبِ الجمعةِ في المسجد القريب من بيت الشلطامي ثم نخوض بعدها في أحاديث طويلة عن الأدب والشعر والصوفية ، وعن ذكرياتنا ، وعن أحبابنا الذين رحلوا.
(3)
إذا سألت الشلطامي عن أخباره كان يجيبك في سنواته الأخيرة ” والله يا صديقي أحسُّ كمن حُكم عليه أن يشرب كلّ صباح كأسا كان مزاجها مرّا” … تذكرتُ الشلطامي كلما قرأتُ عن سقراط.
لقد حكموا على سقراط بالإعدام وحكم الله على الشلطامي بالحياة.
ترى هل كان الشلطامي يعني الدواء المرَّ الذي وُصف له صباح كل يوم؟
لا أدري
(4)
الشلطامي يحدثك عن فترة سجنه في كثير من حس الدعابة الذي يصل إلى حد الضحك فهو لا يحمل كراهية لأي إنسان حتى الذين عذبوه ؛ فحين كان في السجن دخل عليه أحدُ الضباط فوجده ساجدًا في صلاته.. يغضبُ الضابطُ وينهال على الشلطامي جلدًا حتى الدم.. كان الضابطُ يصرخ “أتصلي يا كافر؟ أتصلي يا كافر؟”
قال الشلطامي أنه التقى عدة مرات بجلاده خارج السجن وكان يبادله التحية!
حقا لقد كان الشلطامي رجلا طيبا وشهمًا
(5)
كانت للشلطامي صفاتٌ أخرى ؛ كان كما أخبرني صديقي الشيخي : “حكايا الشلطامي كثيرة ولكن أجمل القصص التى كنتُ شاهدا عليها وهزتنى بعنف لمعرفتى الجيدة بطريقة حياته وأسلوبه فى الحياة والذى يعتمد على احترام الذات والكفاف فى الحياة او مايسمى باللهجة الليبية ( العصران ) والتي تقال للرجل عندما يكون هكذا .. أرسل له القذافى ذات مرة سيارة بالجرار محملة بالآثاث الجديد هدية لغرض تأثيث بيته ، وعندما وقفت السيارة أمام بيت الشلطامي طرق المكلّف بتسليم آثات البيت خرج محمد مستفسرًا عن الطارق، فقال له الطارق انه يحمل هدية من الاخ القائد وهى سيارة بالجرار تحمل اثاثا له ..فرد عليه الشلطامي بحزم : شكرًا لك فبيتى مؤثثٌ ومستورٌ ولله الحمد ورفض محمد استلام اى شئ رغم الحاح المكلف بهذه المهمة ، كان صديقنا يقف أمام بيته كالأسد ، كان شهما أبيا .. وعلامات الاستغراب مرسومة على وجهه وكأنها تقول انا لا اشترى !!!”
(6)
لم يكن الشلطامي يخرج على الجمهور كغيره من الشعراء..سألته مرة : “لم لا تقرأ شعرك على المنصّات كي يلتقي بك محبوك كما فعل قبلك درويش؟”
يجيب الشلطامي : “أنا لستُ مطربا”.
تسجيلات الشلطامي نادرة رغم قرابة الخمسين عاما من العطاء الشعري بالعامية والفصحى.
(7)
التقيتُ بالشلطامي آخر مرة صيف 2009 ، سألته سؤالا أخيرُا : “هل كتبتَ شيئا جديدا يا صديقي؟”
أجاب : ” أعدّ ديوانا جديدا هو “صدى” لما كتبتُ في مسيرتي الشعرية .. كأنه أراد أن يعود إلى عوالمه الشعرية قبل أن يسافر.. لا أعرف إن أكمل الشلطامي الديوان أم لا.
(8)
رحل صديقي الشاعر الشلطامي يوم الإربعاء الموافق 24 مارس عام 2010 ولم أكن وقتها في الوطن. كتبَ لي صديقي مصطفى الشيخي رسالة يقول لي فيها ” كان الشلطامي ياصديقى يحمل لك جبالا من الود في علو جبال الهمالايا ومساحات من الحبّ بحجم بحار العالم الواسعة ، يعشق أسلوبك فى الكتابة ويصف قلمَك بالقلم الرشيق ، كان دائم الحديث عنك بلطفٍ زائد قلما أعرب عنه تجاه الاخرين .. لأنه يعرف أنك صديقى ، كان وده يغمرنى وكنا نختم كل لقاء بأمانة السلام وعاطر التحايا لك “.
كلما قرأتُ هذه الرسالة شعرت بدفء الصداقة يعبر قلبي . دفءٌ قادمٌ من إنسان مخلص هو الشلطامي…
رحمك الله يا صديقي