المهدى يوسف كاجيجى
يقول عنه استاذنا الصحفى المناضل فاضل المسعودى: “صديق الصبا ورفيق درب العمل الوطنى من اجل استقلال الوطن، زميل العمل الصحفى واحد ابرز الرواد الاعلاميين فى ليبيا، اول من عمل من أبناء جيلنا مراسلا صحفيا لصحيفة تصدر خارج ليبيا”.
النشأة والتكوين…
ولد فى الثلاثينات، وتشكلت مداركه السياسية فى حقبة الأربعينات، بعد هزيمة إيطاليا وانطلاق حراك وطنى يطالب باستقلال ليبيا ووحدتها. فى شارع ميزران بمدينة طرابلس كانت نشأته، وعلى بعد أمتار من بيته تقع وسعاية الفقيه حسن، حيث مرتع الطفولة، من نفس المكان اعلن تأسيس اول حزب سياسى فى ليبيا “الحزب الوطنى” ومن نفس المكان أسس الاستاذ على الفقيه حسن “حزب الكتلة الوطنية الحرة” الذى رفع شعار، الاستقلال التام ووحدة الاّراضى الليبية فكان الحاضنة التى انطلق من رحمها عدد من العناصر الوطنية الشابة، فكان من بينها محمد عمر الطشانى. فى نهاية ألاربعينات سافر الى القاهرة برفقة صديقه فاضل المسعودى، للالتحاق بكلية الحقوق جامعة ابراهيم باشا “عين شمس” حاليا. كانت عاصمة المعز تعيش حالة مخاض الميلاد، الذى حمل تباشير الثورة، التى أنهت الحكم الملكى فى مصر. على ارض الوطن، كانت تجرى مراسم اعلان دولة الاستقلال “المملكة الليبية المتحدة” وتم ايضا توقيع معاهدات لإقامة قواعد عسكرية اجنبية، قوبلت برفض شعبى شديد. ترك المسعودى والطشانى مدرجات كلية الحقوق، وعبر إذاعة صوت العرب قاما بشن هجوم عنيف على الملك ادريس وحكومته، و اصدار مجلة المعركة وطباعة وتوزيع المنشورات المنددة بالاتفاقية، فاصبحادمطلوبين من قبل السلطات الليبية، تدخل السيد سيف النصر عبدالجليل، رئيس المجلس التنفيذى لولاية فزان، فحصل على عفو عام من الملك ادريس، وأصدر قرارا بتعين محمد عمر الطشانى مديرا للمطبوعات فى ولاية فزان وفاضل المسعودى رئيسا لتحرير جريدة فزان.
جريدة فزان
بينما كانت تجرى الاستعدادات لافتتاح اول مطبعة، وإصدار اول جريدة فى الجنوب الليبى فى ولاية فزان، حدثت الوقيعة بين صديقى الصبا ورفيقى النضال، فغادر المسعودى سبها، وأسندت رئاسة التحرير للاستاذ محمد الطشانى، كان الإصدار أسبوعيا، ونجح الاستاذ الطشانى فى استقطاب الكثير من الكتاب والمبدعين،من أمثال الأساتذة يوسف القويرى، ويوسف هامان، ومحمد مصطف المأزق، ويوسف الدلنسى،وعبدالهادي الفيتورى يقول الاستاذ مختار الزورق مدير مكتبها فى طرابلس: فتحت جريدة فزان الباب على مصرعيه للراى والراي الاخر، ومن الطريف ان تنشر الجريدة فى باب رسائل القرّاء، موضوعا لطالب بمدرسة سبها المركزية اسمه معمر ابومنيار.
محمد عمر الطشانى… الاستاذ
اول مرة رايته فيها كان منذ اكثر من ستين عاما، فى مدرسة سبها المركزية، كان على موعدمع معلمنا للغة العربية الاستاذ عبدالسلام سنان رحمه الله، ليطلعه على الجرائد الحائطية التى يحررها الطلبة بحثا عن المواهب، كان أنيقا، يرتدى البدلة ورباط العنق ونظارة شمسية، منذ ذلك اللقاء الأول وحتى اخر لقاء بيننا قبل رحيله، لا اتذكر اننى شاهدته بدون البدلة ورباط العنق،وتعددت اللقاءات بعدها بواسطة اخى بشير كاجيجي رحمه الله، الذى كان يعمل وقتها بجريدة فزان، فعرفت كان دمث الخلق طلق المحيا، يفرض عليك احترامه منذ الوهلة الاولى، لا اتذكر اننى نطقت اسمه دون لقب استاذ حاضرا او غائبا، فى حياته وبعد رحيله،واجزم ان معظم الذين عملوا معه كانوا كذلك،بعد إلغاء الولايات استقال من العمل الحكومى وعاد الى طرابلس، وبانتقال اخى بشير ايضا الى العاصمة،تركت التدريس وافتتحت وكالة اعلان. حصل الاستاذ على ترخيص بإصدار جريدة الحرية، اتصلت به للعمل فى الإعلان، لم يكن للجريدة آنذاك مقر بعد، فكنا نلتقى فى مقهى الاورورا فى ميدان الجزائر او فى بيته، اسند لى مهمة إيصال المادة التحريرية للمطبعة للجمع واعادة البروفات للتصحيح، فلاحظت انه يقوم وحده بكل شئ من تحرير وتصحيح وإخراج، صدر العدد الاول يوم خميس، وهو اليوم الذى خصص للإصدار الاسبوعي، فتلقفته أيدينا من آلة الطباعة بفرحة المولود الاول، حملنا النسخ وانطلقنا بالسيارة الى شارع الوادى، حيث تقع مكتبة الفرجانى، وسلمنا النسخ للتوزيع فعرج بنا على شارع ميزران وتوقف امام محل سنفاز (بائع الفطائر)، وطلب فطيرتين بالدحى، اكلناها ثم عاد بنا الى ميدان الشهداء، حيث كان يقف بائع صحف، تبادل التحية مع الرجل الذى سلمه نسخة من جريدة طرابلس الغرب وقال: عندى جريدة جديدة اسمها الحرية، ارتسمت على وجهه ابتسامة وطلب خمسة نسخ، بالرغم من وجود العشرات معنا فى السيارة وتغرغرت عيناه بالدموع.استمر العمل بدون مكتب لأسبوعين تقريبا، انتقلنا بعدها لرواق بيرينا الواقع مابين شارع الوادى وشارع ميزران، فى مكتب هو اقرب بدكان صغير للاستاذ نعيم العرادى رحمه الله، انتقلنا بعدها الى مجمع سكنى فى شارع النصر، وعلى المدخل الرئيسى ارتفعت لافتة كبيرة عليها شعار الجريدة وهو عبارة عن شعلة تعلو الاسم “الحرية” كتب تحتها يومية سياسية مستقلة تحولت مع الوقت الى علامة بارزة فى المكان.
جريدة الحرية
هى حصاد لتجربة حياة.. للناشر ورئيس التحريرالاستاذ محمد عمر الطشانى، تجربة سياسية.. كشاهد ومشارك فى الحراك الوطنى وماترتب عليه من نجاحات وإخفاقات، وتجربة مهنية.. تمثلت فى ممارسته للعمل الصحفى، مراسلا من ليبيا لجريدة العرب الدولية التى كانت تصدر من باريس، وفى القاهرة مشاركا فى إعداد وتقديم برامج إذاعية وإصدار وتحريرمجلتى “صوت ليبيا” و”المعركة” ومحررا صحفيا فى جريدة القاهرة اليومية، فى شارع محمدعلى ومنطقة باب الخلق فى القاهرة حيث تتجمع المطابع وورش الزنكوغراف تعلم الكثير، وعندما عاد الى ليبيا عاش تجربة اخرى وهى العمل فى الاعلام الحكومى.من شارع النصر بدأت تجربة الإصدار الاسبوعي، وفى فترة قصيرة استطاع الاستاذ ان يجمع حوله فريق متعدد المواهب، كوكبة من الشباب الواعد، امحمد ساسى ابوعون، عبدالكريم الدناع، محمد احمد الزوى،احمد ابراهيم الفقيه، لطفى عبداللطيف، عبدالرحمن ابورقيبة، السنوسى العربى، اضافة الى مجموعة كانت تكتب بدون توقيع نظرا لظروف وضعها الوظيفى اذكر منهم الاستاذ محمد الجروشى وَعَبَد الواحد رحومة من كبار موظفى قطاع النفط، فجرت مقالاتهم قضايا هامة للغاية، ايضا ازدانت الجريدة بخطوط اكبر وأشهر خطاطين فى تلك الحقبة، الشيخ الجليل ابوبكر ساسى، والاستاذ صبرى الامير، من وبالأخوة الاشقاء استاذنا محمد عبدالكافى الموسوعة اطال الله عمره، ومترجم القصر الملكى واصف الطاهر، وفى الإصدار اليومي انضم إلينا استاذنا الكبير عبدالله القويرى واضيف الكريكاتير بشكل يومى لرسامين من الشباب كانت بداياتهم فى الحرية هم شريف وعبية.
مذبحة الصحافة!
لكل شئ اذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هى الايام شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
“أبيات للشاعر ابو البقاء الرندى من قصيدة فى رثاء الأندلس بعد سقوط غرناطه”
تدفق النفط، وانتعشت كل مناحى الحياة فى ليبيا، فاصبح للحرية مطابعها، وتحولت الى الإصدار اليومي، فارتفع العائد من الإعلان والتوزيع،وتقررت زيادة عدد الصفحات وتطوير المصادر الإخبارية والصحفية، كانت الأحلام كبيرة، ولكن تاتى الرياح بما لا تشتهى السفن، على الصفحة الاولى من العدد رقم 662 الصادر بتاريخ الفاتح من سبتمبر لعام 1969 كان العنوان الرئيسى “حضرة نائب مولانا الملك المعظم يتفضل باستقبال المبعوث الشخصى لجلالة ملك المغرب” – فى العدد 663 الصادر يوم الخامس من سبتمبر بعد توقف أربعة ايام عن الصدور كان العنوان الرئيسى – “بريطانيا ترفض طلب الملك السابق ادريس” – وسبحان مغير الاحول – واصلنا الصدور على طريقة “مات الملك عاش الملك” وفرض علينا رقيب عسكرى لقراءة كل شئ قبل النشر بعقلية متحجرة، وللحقيقة ان الود كان مفقودا مع القادمين الجدد منذ اليوم الاول، لم يدم الامر طويلا، وفى اقل من عامين تشكلت محكمة الشعب، فوصفها استاذنا فاضل المسعودى: “مذبحة الصحافة، التى جرى بمقتضى أحكامها الباطلة عزل نخبة الكتاب والصحفيين والاعلاميين وإغلاق صحفهم الذى تجاوز عددها سنة 1969 العشرين صحيفة، وبذلك طويت صفحة الصحافة الحرة وانتهى عصرها الذهبي”. انتهت تجربة الحرية بنجاحاتها وإخفاقاتها دون تقييم، تفرغ الاستاذ لإدارة مطبعة الحرية ولم يدم ذلك طويلا فلقد تم تأميم المطبعة، طرحت أفكار كثيرة، منها اصدار الحرية من خارج الوطن وتعثرت بسبب رفض الاستاذ لمغادرة الوطن، فى عام 2005 أدركه المرض فذهب فى رحلة علاج وزيارة الى ابنائه عمر رحمه الله وعبدالحميد الذى قال لنا: من قبل مرضه حاولنا إقناعه مرارا بترك ليبيا والإقامة معنا فى كندا، وكان رده دائماً: بلادى وان جارت على عزيزة. لم تتعدى مدة الإقامة أسبوعين، عاد منها جثمانا طاهرا لتحتضنه الارض التى احبها.
رحم الله استاذنا محمد عمر الطشانى وغفر لنا تقصيرنا نحوه.
____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل