محمد بوعجيلة
كانت أمي تبدأ الصباح بـ “ضم” المنزل، و”رفع” الصالون.. كنا نرفع الصالون أو “نجر” الكنبة على الأرض فتقول لنا “أرفعوها” هي الأخرى لكي لا ”تكسروها”.
تباشر أمي في صنع خبز “التنور”، تنادي أخي الأصغر مفتاح، يبدأ مفتاح في “تكسير” الحطب وتجهيزه.. كان يكسر ذلك بفعل الأمر حين قالت له: (يا افتوحا هاك “أكسر” الحطب).
كانت أمي تتعامل مع اللغة والنحو في حياتها اليومية بهذه السهولة، تتحدث وتعمل على ترتيب الكلمات وتنسيقها دون قواعد نحوية، تبين لي ذلك من خلال حديثها وعملها والمصادفة، التي ترفع فيها أمي المكسور وتحتضنه بشدة.
رغم ذلك كانت تمتلك مخزونا من الكلمات التي لا تخضع لقواعد اللغة، فهي تجبر كل الكلمات المكسورة في قلبها، رافضةً بذلك كل مبادئ الكسر.
اذكر أننا كلما عزمنا على المشاغبة أو خططنا لمشاكسة ما؛ نجدها تبتسم ابتسامةً ترتسم على ملامح وجهها الباسم، تُربِتُ على أكتافنا قائلة: “أكسر سعدكم“!.. هي لم تكن بتلك القول قاصدة “الكسر” بمعناه الحقيقي، بقدر ما تحمل في قلبها محبة عظيمة؛ أي “ما وراء الكلمة“.
ولدى أمي أدوات مكروهة، إلا أنها متصالحة معها ومن خلالها، أقصد بذلك إحدى العلامات، التي تستعملها في الغالب لنصب اللحم على النار، كان اللحم في بيتنا “منصوبا” حتى وإن لم يكن كذلك.
في الحقيقة أقف عاجزًا أمام كلمات أمي التي لا تخضع لشروط اللغة، والتي تجعل النافذة دائما “مفتوحة” وما أن تصبح لدينا جولة خارج البيت، سرعان ما ترى أن النافذة مغلقة حول نفسها “مشدودة” لكي لا “تكسر” ويتعرض المنزل بالكامل “للنصب” والسرقة.
ذات مساء كنت قد كتبت مقالاً أرسلته إلى صحيفة، أتصل بي المدقق اللغوي في الصحيفة ليخبرني عن موقع كلمة نافذة في المقال. يقول المدقق أن كلمة (النافذةُ) مضمومة وليست مفتوحة كما أدرجتها، وبدأ يسترسل في حديثه موضحا السبب.
أمي كانت بجانبي حين تحدثتُ معه حول كلمة النافذة.. نظرت إلىّ أمي بتمعن شديد، ومن ثم إلى النافذة، وقالت: أن النافذةَ دائما “مفتوحة” صوب الشمس وأن الريح “ساكنة” داخل قلبي، وأن ماهو مرفوع حقًا فوق الجبل هو بيتنا وليست النافذة. وهذا بحسب موقع بيتنا الجغرافي في المدينة.
* ملاحظة: إن كان هنالك خطأ في النص فهو من تأثير نحو أمي.