في نقاش عربي، دولي جمعنا بالأُقصر، ما قبل مفاعيل كورونا التباعدية، وقد ألتئم مؤتمر جاءت جلستنا على هامشه، ولعل لقاءات الاستراحة والأمسيات بعد انتهاء الجلسات المقررة، تتيح أريحية نقاش وسجالات حرة مثمرة، تتجاوز الانضباط الزمني الذي يجري عنده التهام التداول العلمي بين الحضور للبحوث المقدمة، خاصة إذا ما هيمنت سلطة المنصة!
جلستنا النقاشية ضمت باحثين من مصر، والسودان، والجزائر، وليبيا، وكان المؤتمر يخص محاور عن تراث المرأة الشعبي في دولنا، وموقعها فيه، إذ تتنوع البيئة فيتعدد المنتج الجمعي بمشمولات تلك البيئة بحرا أو صحراء وواحة، وقد جرى في مبدأ نقاشاتنا، انحياز من بعض جمعنا إلى عناية المرأة بالسرد أكثر من انشغالها بالشعر، أي أنها الحكاءة، “الراوية” الشعبية بلا منازع، وظلت عنوانا لذلك الفن، في ذاكرة أجيال سبقتنا، هي خازنة وحاضنة وموثقة للحكايات الشعبية، ولما أُعتبر المدرسة الأولى للقيم المجتمعية المراد تثبيتها أو نبذها، وحتى أدب “السيرة” خرجت فيه نماذج منهن حافظات للسيرة الهلالية مثلا، وروينها لمجمع من الاطفال والنساء، أحتفظ والدي في ذاكرته، براوية السيرة في واحته بجنوب ليبيا (براك/ الشاطي)، ما وكدته لي عمتي أيضا، هي من أسموها أم الجميع، “زينب بارينا”، كممثلة بارعة في تجسيد أبطال الحكايات، مسرحها ما تفترشه العائلات، الرمال في خريف الواحة، قريبا من عيون الماء التي تنعش بنسماتها الأجواء الليلية.
ولكن، وعن الشعرية هناك من تصدى بجلستنا، للدفاع عن حضور المرأة فيها، صحيح هي ليست شاعرة القرية المشهود لها، ولعل تعليل ذلك أنها المستقرة بالمكان والذكر مرتحل، مدافع عن الحياض، وموسع لدائرة معارفه، إلا أن ذلك لا يمنع الإقرار بنصوصها التي تؤلفها وتغنيها بوضعية استقرارها وجاء نموذج نساء الصعيد بمصر، مع انبثاق دورة الحياة، وحتى إعلان مغادرتها، تتابُعا من أول استقبال مولودها “الهدهدة”، ثم في حفلات الخطوبة والزواج والختان، وإلى طقوس التعديد تلك المرثيات الحزينة، ولن ننسى أغاني العمل فلها منها نصيب، نموذج أغاني الرحى عند طحن خبز الحياة، وأغاني المناسبات الدينية، كموسم الحج (التحنين)،على ذلك هي تقدم نصا شعريا في مناسبات وطقوس عدة، تعبر فيها عن مكنونها، وجعا معلنا أم مسكوتا عنه يجري تضمينه عبر استعارات بلاغية.
وكنت عاضدت الموقف الذي أشار لحضور “شعرية” المرأة في الثقافة الشعبية كما مثال نساء الصعيد وللدكتور محمد شحاته على كتاب جامع راصد لعديد من النصوص لهن.
وليس لنا أن ننفي عنها ذلك حتى بوضعيتها الرئيسة، ما بدا أنه فن النساء فقط جدات وأمهات، كحكاءة ساردة بفعل عامل استقرارها، وضربت مثالا لطقس تمارسه النساء وفقط، وبه إعلان شعريتها وفق سياقاته، تؤلف نصه ويجري ترديده وما وثق لبعضه في يومنا هذا، هي شعرية مفرزة عبر طقس “البوقاله”، ما تواجد ببعض مناطق من جغرافيا المغرب العربي، كليبيا والجزائر، وكانت زميلتي من الجزائر وكدت ذلك، بإشارتها الى سبب تسميته بفن “البوقاله”، بأنهم يسمون حلة الفخار (ذات الغطاء المفصول) التي يطبخون فيها :”البوقاله”، ويقصدون حكاية الصوت الصادر عن الغليان!
والبوقاله كنص شعري مختزل بأبيات نثرية قصيرة، متنها شُغله الشاغل والمخاطب فيه الرجل، وإن كان الخطاب الشائع فيها طقسه أحادي الوُجهة من المرأة الى المرأة في جلسة منغلقة بهن، والقاله: من القول أو ما يصدر عن الكائن، إلا أن هناك ما يشذ في نص البوقاله عن تلك الصور التقليدية، وحتى لا يكون حُكمنا عموميا، ففي متن البوقاله أيضا ما يوحي بالتمرد والاحتجاج على بعض من المحظورات والضوابط الاجتماعية الملزمة للمرأة كتابعة وخاضعة، حين نسمعها تعلن بنماذج من نصوصها ،عن رأيها في اختيار من تحب، بتحديد شروطها في شخصه وسلوكه بل وحتى مهنته ، ويصل رفضها المعلن تجاه من أجبرت على الزواج به حد تركه والهرب لملاقاة من أحبته ورغبته! كما إنها تنتقد بعضا من السلوكيات الاجتماعية السيئة كالنميمة، والغيبة، والغيرة في غير محلها، وأيضا التميز العنصري، والفوارق الطبقية.
البوابة نيوز، الخميس 11 مارس 2021