يقصد بالعقلانية، عموما، الاعتماد على العقل في التفكير إزاء ما يخص وجود الإنسان في الكون، وكذلك في ما يتعلق بمعالجة الأمور الحياتية، إن على المستوى الفردي أو على مستوى المجتمع. أي بعيدا عن الرؤية السحرية والخرافية والغيبية، ومن هذه الناحية فالعقلانية تعتبر خطوة متقدمة في مسيرة التفكير الإنساني بخصوص مقاربة الحقيقة والواقع، وارتبطت، بصفتها هذه، بالتفكير الحر والمفكرين الأحرار.
التفكير العقلاني قديم جدا، تواجد مع بداية التشكل الحضاري وتطور بالتفاعل مع عملياته. فثمة من يربطه بالحضارة السومرية. لكنه تمثل بشكل باهر في الحضارة اليونانية من خلال نتاجها الفلسفي الذي ابتدأ حوالي القرن السادس قبل الميلاد.
تولُّد العقلانية أثناء تمخض الحضارة لا يعني أنها مجرد نتاج لها. ولكن يعني أن الحضارة، بمجرد شروعها في التخلق، بدأت “تفرز” العقلانية التي أسهمت، بدورها، في نمو الحضارة. أي أن الحضارة، وهي تتمخض، ولَّدت طاقة دافعة تدفع بها قدما، هي العقلانية. فلا حضارة بدون عقلانية، ولا عقلانية بدون حضارة. تلازم العقلانية مع الحضارة يعني اقترانها بالحداثة. الحداثة الخاصة بحضارة ما في حقبة تاريخية ما.
في تراثنا الإسلامي- العربي تجلى
التفكير العقلاني، أبرز ما تجلى، لدى فرقة كلامية [لاهوتية] نشطت في القرن
الرابع الهجري، العاشر الميلادي، هي فرقة المعتزلة الشهيرة.
هذه الفرقة
تأثرت بالفلسفة اليونانية، خصوصا المنطق، واعتمدت على العقل في النظر إلى
أمور العقيدة والقضايا الغيبية، فحكَّمت العقل في النقل، وأوَّلت المنقول
وفق اشتراطات المعقول. وعلى جهود هذه الفرقة ظهر الفلاسفة العقلانيون
المسلمون.
في أوروبا ازدهرت العقلانية خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر (أي ما يعرف بعصر الأنوار، أو التنوير) وظهر مصطلح “العقلانية “Rationalism حوالي سنة 1732 وقصد به: “الاعتماد على العقل Reason كقاعدة لتوطيد الحقيقة الدينية”. وكان قد سبقها مصطلح “العقلاني “Rationalist في عشرينيات القرن السابع عشر واختص معناه حينها بالطبيب الذي يعتمد في علاجاته على العقل. وفي أربعينيات القرن نفسه دخل هذا المصطلح المجال الفلسفي. واصلت العقلانية الصمود والتطور وتحالفت مع العلم و “الحداثة Modernism”. ظهر مصطلح الحداثة حوالي سنة 1737 وكان يقصد به :”تبني ممارسات وتعاملات، أو استخدام تعابير، خاصة بالأزمنة الحديثة [المعاصرة]”. إلا أن الحداثة كحركة جارفة ظهرت مع نهايات القرن التاسع عشر ومنتصف القرن العشرين مركزة على مراجعة الثقافة الأوربية في الآداب والفنون والفلسفة والعلوم الاجتماعية والطبيعية والثورة عليها.
في الوطن العربي والعالم الإسلامي لم تُفق العقلانية من غيبوبتها أثر الهزيمة التي تلقتها منذ عدة قرون. وحتى محاولة التحايي والنهوض التي حاولها مفكرون أفذاذ منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى ستينيات القرن العشرين تقريبا باءت بإخفاق مبين نتكبد تبعاته حاليا. إذ “لم يصبح التنوير حركة شعبية في أي بلد مسلم، وتاريخنا ممتليء بكم الأمثلة التي فرضت فيها السلطة السياسية تفكيرها على المجموعة العظمى من خلال قوة محاكم التفتيش، ويعد إهمال حرية المرء الفردية وراء استمرار هذا التفكير، لهذا تتكاثر المجتمعات القمعية”*.
كما أنه لا توجد حداثة في العالم الإسلامي والوطن العربي. وما نراه من استخدام بعض مظاهر الحداثة، من مثل الملابس وأدوات التكنولوجيا وبعض أنماط المعمار، لا يعد حداثة بالمعنى الكامل، لأنها تخلو من الجانب المعنوي العقلاني الذي أحد أهم أركانه الديمقراطية بجوهرها المعتمد على مبدأ حق المواطنة والحريات العامة التي أبرزها: حرية العقيدة وما يترتب عليها من حرية الرأي والتعبير.
وإذن، فالحداثة دون عقلانية هي جسد دون روح. جسد في حالة موت سريري.
* نصر حامد أبو زيد و إستر نيلسون، ترجمة نهى هندي، صوت من المنفى: تأملات في الإسلامن الكتب خان، القاهرة، ط2 2017، ص 297.