إلى أخي معاوية رحمه الله… في ذكرى مولده.
بشير السنفاز أحد السنفازة الذين تتناثر دكاكينهم في بعض أحياء طرابلس كفشلوم وقرجي ورأس حسن والمدينة القديمة، يصنعون شطائر دائرية يطلق عليها ‘السفنز’، والتي يبدو أن مصدرها كلمة الإسفنج، لأنها تشبهه، فهي شطيرة خفيفة ومنفوشة تزداد تماسكا عند أطرافها بينما قلبها مرهف يكاد يتكسر ويتحول الى هباء.
دكان السنفاز ضيق في العادة، يتسع لعدد محدود من الرجال. يقف داخله أو أمامه على الرصيف دولاب مصنوع من الخشب أو الألمنيوم بأبواب زجاجية تتكدس به حلويات “الزلابية” و”العسلة” أو يكون فارغا، وتغلف أرضيته وجدرانه مربعات البلاط. تمتّد على أحد جوانبه مصطبة عريضة من الرخام أو السيراميك، يضع عليها السنفاز أدواته بما فيها موقد بعيون لهب برتقالية، وتقف إلى جوارها اسطوانة الغاز الزرقاء الملطخة ببقع الصدأ.
أدوات السنفاز محدودة تتمثل في مقلاة واسعة مليئة بالزيت، صحن كبير به خلطة العجين الرخوة، سيخ حديدي لرفع الشطيرة من الزيت، صحن ألومنيوم كبير يعرف بـ”الليان” بداخله صفاي يوضع فيه السفنز لتصفيته من الزيت، وسطل بلاستيكي يخبأ تحت المصطبة، لإفراغ الزيت المستعمل فيه، وحزمة أوراق تستخدم في تغليف الشطيرة عند تسليمها للزبون والتي سرعان ماتتمدد عليها بقع الزيت.
يرتاده غالبا الرجال وقلة من النساء، يتجمعون أمامه في الصباح، بينما هو منهمك في مشهد حي في صناعة السفنز. تقف أمام دكاكين السنفازة يوم الجمعة تحديدا طوابير من الرجال بشعورهم المجعدة تعلق بوجوههم بقايا النعاس فيبدون بملابسهم التي يرتدونها و نعالهم الخفيفة وكأنهم نهضوا للتو من فراشهم.
يقطن بشير السنفاز في إحدى الازقة الترابية بحي غوط الشعال، حيث تلتصق البيوت وتكاد أن تفتح أبوابها المتقابلة على بعضها البعض، بينما يقع دكانه على طريق قرجي الرئيسي.
غوط الشعال تجمع شعبي لخليط من مدن شتى، يتحركون جماعات كأسراب السردين ويتكسبون من الطريق الرئيسي الذي يحده شمالا، وقد عجل ضيق الحال والحاجة، إلى إختلاط سكانه بغرباء ومهاجرين من أعراق متعددة، يستأجرون حجرات أو بيوتاً من سكانه.
لم يعرف بشير مهنة غير السفنز، يعيش في زيته، ويسترزق دنانيراً منه، يخرج من بيته باكرا وهو يحمل فوطته في كيس بلاستيكي، يغطي رأسه بـ”معرقة” بيضاء صيفا أو “شنة” سوداء شتاءا، وينتعل شبشبا من الجلد المقلد. وفي طريقه إلى دكانه على الجانب الآخر من طريق قرجي، يأخذ بشير شارع عشرة ثم يصعد شمالا نحو هذا الطريق الذي لا تهدأ فيه حركة السيارات، يبسمل كل صباح ويتمتم ببعض الأدعية وهو يعبره.
يعرف طريق قرجي الرئيسي المربوط بالدائري السريع بطريق الموت. فهو مزدوج وفج كفكي سمك القرش، لا طوق نجاة لقاطعيه سوى إشارة ضوئية واحدة وجسر حديدي يتيم. ورغم شراسته فإن المشاة يفضلون إتيانه رجالا من أية بقعة فيه. تبدو السيارات في ذلك الطريق وكأنها أصيبت بحمّى أو لوثة، تدهس الأجساد الطرية أو تتلذذ بقذفها واللهو بها في الهواء وهي تنهب أسفلته بسرعة وتصدر أصواتا شرسة.
“عمره… الله غالب”.
تنصب الخيمة وتعلق الأضواء الكاشفة وتصف الكراسي البلاستيكية البيضاء ويعلو صوت شيخ ما وهو يتلو القرآن، وتفوح رائحة البصل والطماطم و البهارات ويأكل الحي بأكمله، وتوزع أكواب الشاي بأدوارها الثلاث ويقدم السفنز صباحا، تعقد الجلسات والصفقات ثم تفض بعد ثلاثة أيام، يتحصل السائق على تنازل من أهل المجني عليه ويطلق سراحه بعد أن يؤدي أهله على مدار الأيام الثلاثة واجب العزاء و إحضار بعض المؤونة. يكلل السواد البيت بعد الفقدان، وتزداد اليد ضيقا، ولا يعبأ أحد بتلك الهوة السحيقة المفتوحة في وسط البيت تسيل اليها دموع اليتامى ولا تتعبأ.
يبذل بشير السنفاز جهدا وحيطة مضاعفين وهو يقطع الطريق، يلتفت يمنة ويسرة أكثر من مرة ولا يتردد إذا ماقرر العبور، يتوقف عند الرصيف الفاصل ثم يهرول إلى الجهة الأخرى من الطريق وهو ينظر يمينا إلى السيارات القادمة نحوه بتحدٍ. كثيرا ما يصرخ فيهم ويدعو عليهم بالموت. شهد بشير أصدقاء وأقارب يسحقون على أسفلت الطريق، كما أنه يعلم أن أطرافه هي مصدر رزق أسرته التي تتقاسم حجرات ثلاث ومربوعة. تدعو له زوجته “حدهم” كل صباح أن يعود إليها سالما غانما حتى وإن عاد و قد لطخ الزيت بدلته العربية و علق بشعيرات رأسه ورموش عينيه وتناثر على “معرقته”، وبقّع دنانيره الورقية.
أصبح الزيت جزءاً من حياة بشير…يشتري من الجمعية صناديق من زيت عباد الشمس ويضعها في المنور، ثم يعمل على نقلها إلى الدكان… كان الزيت يثير سحابة حوله لا تمطر ولا تنقشع، حتى حين يستحم بالدلو البلاستيكي الأحمر. لاحظت حدهم أن حواشي الدلو أصبحت لزجة وأخفقت في إزالتها حتى بإستعمال الوركينة …. هكذا شيئا فشيئا أصبح بشير لزجا مثل دكانه. كان الزيت في كل مكان… على المصطبة وبلاط الجدران والأرضية و زجاج الدواليب.
يفتح دكانه باكرا كل صباح، يرتدي معطفا أبيض ويلف الفوطة حوله بحركة مدربة، يعجن الدقيق ببعض الملح و الماء الدافئ، يفركه حتى يتحول إلى عجينة رخوة أقرب إلى السائلة. يشعل النار إلى حدها الأقصى حتى يشعر بلهيبها يلسع وجهه ويضع عليها مقلاة مدورة كبيرة الحجم، يثقب عينين في علبة الزيت الطويلة، ثم يبدأ في دلق أنهار من الزيت في المقلاة بينما أذناه تسترقان السمع لدلق الزيت ثم لفرقعة فقاعاته المحمومة.
ما أن تصل رائحة الزيت الساخن إلى أنفه وتعم المكان.. حتى يتناول بأداة معدنية قطعة من العجين الرخو ثم يمسكها بأصابعه، ويبدأ في فتحها بيدين مدربتين ثم يرمي بها في المقلاة… كان يتفنن في فتح العجين ورميه… خاصة أمام جمهور المشترين صباح الجمعة…
“عمي بشير… عشرة سفنزات يرحم والديك”…
“زوز بالدحي”….
لم يكن بشير يرد، كان يحرك يديه ويقذف شطيرته في الزيت كأنها طبق طائر لتنتفخ وهي تصدر حسيسا في انتفاخها بمجرد أن يلامس سطحها المصقول البارد الزيت الساخن، يمسح يديه في الفوطة التي يلف بها وسطه، ثم يأخذ السلك المعدني يحرك به الشطيرة، يغرسه في جانبها ويخرجها من حرارة الزيت وهي تأز ويضعها في الصفاي ثم يغلفها بورق سرعان ما يمتص زيتها الذي يبقعه، ليمدها في آخر المطاف للزبون ويقبض منه النقود ويعود للتركيز على يديه يحركهما.
تقبض “حدهم” على النقود التي يجلبها اليها آخر النهار، فتتلذذ بلمس طبقة الزيت التي عليها وتشعر وكأنها سفنز طازج خرج لتوه من الزيت الساخن….” سلمك جياب… وعليك حجاب”.
كانت حياة بشير السنفاز تستيقظ في العطلات و الأفراح والمآتم حيث يبدأ الناس صباحهم بشطائر السفنز الساخنة يقطّعون أوصالها ويدخلونها في أفواههم أو يغمسونها في السكر أو العسل قبل أن يلتهموها.
لكنها توقفت ذات يوم حين تحركت منطقة قرجي وغوط الشعال عقب اندلاع الثورة في بنغازي.. وانطلقت منها هتافات ” يابنغازي مش بروحك…. نحن ضمادين جروحك”..
أوصد دكان بشير بساتر حديدي أخضر و لم يتبق فيه سوى سطل الزيت المستعمل تحت المصطبة دون أن يفرغه ، ولم يعد يقترب من الطريق الذي ازداد خطورة، جُنّت سيارات التندرا البيضاء ولاحقت الشباب وسط الأزقة المتربة وهي تفتح على صدورهم النيران….. ، ولم يترك بيته إلا إلى الجامع القريب يوم الجمعة.
حتى جاء اليوم الذي علا فيه أزيز الرصاص وخرج الحي بأكمله راجلا إلى الطريق الرئيسي الذي اتسع لهم واحتضنهم، سكنت السيارات وهدأت إلا من أبواقها تتغنى بالحرية، عرف طريق قرجي فرق الزكرة والمالوف ونقش الشباب على حائط دكان بشير لوحة وهتافات. خرج بشير من بيته وقد جف جلده وتشقق …قطع طريق قرجي بثقة وعلى مهل، فتح دكانه وعلق علماً ملوناُ على بابه…. فرك العجين وعادت إليه لُزُوجته…… لم يتغير الحي، لكنه غص بشباب يحملون الأسلحة ويطلقون الرصاص كل ليلة.
رغم البوابات التي نصبت على طول طريق قرجي، إلا أن السيارات عاودت جنونها وهي تبحث عن فريستها من البشر، لذا ظل بشير يخشى الطريق، ويتفادى الموت أكثر من مرة وهو يتراقص على أسفلت الطريق… يشعر بأن الزيت الذي يغلفه يسهل حركته ويجعل منه راقصا قلقا وسطه.
لم تمض سنة على عودة بشير السنفاز إلى دكانه يشكل العجين ويرمي به إلى الزيت الساخن ويستمتع بأصوات لسعاته وانتفاخه، يمد السفنز إلى طوابير المشترين مقابل نقود قليلة… وبينما هو عائد إلى بيته يتحسس دنانيره المبقعة بالزيت في جيب الفرملة بعد أن نجح في قطع الطريق ودخل الحي، سمع إطلاق رصاص لم يعرف مصدره، توقف في مكانه وأخذ يلتفت في كل الإتجاهات وهو يقبض بيديه على فرملته كعصفور خائف أسدل جناحيه، وتردد…. اخترقت إحداها صدره واستقرت به، فانفجرت الدماء من أحشائه وبللت بدلته العربية والوريقات النقدية وخر على التراب….
حين أخذوه إلى “حدهم” قالوا لها ” دعكة شباب جت فيه…الله غالب عمره” .. لم تر حدهم زيتاً على جسده الرخو… رأت ثقبا في صدره ماتزال الدماء تسيل
“ليه عليكم … ليه بشير… ليه”
نصبت الخيمة ثم انفضت… ولم يأت أحد من أهلهم للتفاوض ولم يجرؤ أحد حتى على الكلام مع ” الشباب” الذين يمتشقون السلاح على بدلهم الكاكي ويتحركون به بزهو في الحي…..أُغلق دكان بشير السنفازعلى طريق قرجي الرئيسي…وفغرت أفواه أهله… أطل الموت على الحي وأزقته بعد أن كان على أطرافه…. بكت حدهم وأبناؤها… ضاقت الدار واتسعت حفرة الحزن فيها، تسيل إليها دموعهم ولا تتعبأ.
أتاوا – 6 يناير 2013
تعليق واحد
تحياتي
الجميل في نصوص القاصة “عزة المقهور” إنها تتكئ على عنصر البساطة، والذكاء في التقاط حبكة القصة أو حدوثتها، ومن بعد عين قوية الملاحة مدربة على الاحتفاظ بالصور.
في انتظار مزيدك