المقالة

أنتِ حرة وأنا عبد

لوحة للفنانة التشكيلية”فائزة رمضان”

وأخذت الأديبة المحجبة والفيلسوفة المتنكرة تتحدث في أشتات وأمشاج من الأدب والفن.. وتشرق وتغرب وتبتعد وتقترب.. وتوجز حيناً وتطنب أحياناً، وتهمس حتى يكاد صوتها يتلاشى، ثم ترفع نبرات صوتها الحنون حتى كأنها تلقي محاضرة، ثم تحاول أن تصل إلى هدفها تارة بالتلميح وأخرى بالتصريح، والكاتب الأديب في حيرة من أمره وبلبلة من أفكاره، يصغي لحديث الفيلسوفة الصغيرة كل الإصغاء، ويلتقط كل عبارة تلقي بها، ويكاد يحفظ ويكرر لنفسه كل فقرة من فقرات سمرها، ويكاد يتشرب حقائقها وهو في دهشة تتلوها دهشة.. وإنه في حيرة تتلوها حيرة، وهو يعجب كل الاعجاب من هذا التفكير المركز والأسلوب الشيق العطر النير، والعبارات التي تتدفق من فيها أحياناً بطيئة متزنة.

وأحياناً مسرعة ثائرة، ولكن دائماً حديثها لم يرتجل ارتجالاً، ولم يلق عبئاً أو لهواً، ولكن الأديبة المحجبة والفيلسوفة المتنكرة كانت رغم فصاحتها وطلاقتها وحرية رأيها وكأنها رغم حبها للجرأة والصراحة تتحفظ إلى أقصى حدود التحفظ.. تتريث إلى أقصى حدود التريث.. ثم تُخرج الأديبة المحجبة وليلى المتنكرة حديثها وسمرها اللذيذ بآه خارجة من أعماقها، آه حارة ثم تزفر زفرة محرقة تحمل أكثر من معنى وتشير إلى أكثر من فكرة وترمز إلى أكثر من موضوع، وقالت الفيلسوفة الصغيرة أو ليلى المتنكرة: أنا أخشى حديث الصحافة وأنتم أهل الأقلام لا أمان لكم. وصناعتكم نقل الأخبار وحمل الشائعات وإذاعة الأنباء، والتسرع في نشر الأحاديث وأذانكم لها صلة قوية بألسنتكم والمسافة بين لسان الأديب الصحفي وبين أذنه أقصر مما عند الناس.. فكيف أكون مطمئنة للحديث الحر وكيف أكتشف عن دخيلة نفسي وأبرز لك ما في مكنون حسي وما قصة (ليلى القاهرية) بعيدة عن أذهاننا تلك التي بَادرت بنشرها في الجريدة، وما زلت أحتفظ بقصاصات منها، وأعلم بأني لي نصيب منها.

ولكن الكاتب الأديب يحاول أن يثنيها عن فكرها وأن يبدل الصورة المرتسمة في ذهنها عن الصحافة والصحافيين، وحملة الأقلام المساكين، وليس كل ما يقال ينشر، ولا كل كلام يذاع، وخاصة ما يدور في مجالس السمر الأدبي.. والصحفي الأمين والكاتب العف النزيه كالطبيب الشريف لا ينقل للناس سرَّ المهنة ولا يكشف للملأ عن كل شيء إذا ما كان فيه ضرر أو أسرار.. والكتاب والأدباء أطباء المجتمع، وحاول أن يفهم ليلى المتنكرة إنما هو حديث خاص لا عام، وهو يكتب في القلوب والصدور ولا ينقش في الصفحات والسطور، إنه يطوى ولا ينشر ويحفظ ولا يذاع، إنه حديث قلوب.. لا حديث أقلام عابر لكنه صادق معبر.ولكنها ظلت رغم هذا كله عنيدة مصرة على التكتم في أشياء.. والتزام الصمت أو المداورة أمام كثير من الأسئلة أو التهرب والالتواء في عديد من الأجوبة، وظل صاحبنا وقتاً طويلاً وهو في صبره معها، تحاوره ويحاورها.. وتناوشه وتعاكسه، وتفصح وتغمض، وتقترب وتبتعد، وتوجز وتطنب، وهو معصوب العينين لا يدري طريقه الذي يسير فيه، ولا يعرف من أمره شيئاً إلا أن يحمل من الساقية ماءً ليصبه.. ثم يملأ ماءً من جديد ليفرغه.. ويدور مراراً وتكراراً في طريقه المحدود المرسوم مكرهاً مرغماً. وقال صاحبنا: ارحميني من اللف والدوران، ولا تجعليني هكذا كالثور الذي يلف في ساقية معصوب العينين متعب الرجلين.. ثور وساقية.. وضحكت ضحكة بريئة حلوة طاهرة، وقالت في نغمة فيها رقة وأدب: ثور وساقية عنوان طريف لقصة طريفة هل يمكن أن تقدمها لنا.

وهل ممكن أن احتفظ بقصاصات منها؟ وقال.. لست قصاصاً ولا روائياً. قالت … بل لك سهمك في القصة، وإن تواضعت أو غضبت من أدعياء النقد والعابثين. قالت: قرأت لك كثيراً بل واحتفظت لك بكل ما تقدمه للناس وتنشره وأعرفك أكثر مما تعرف نفسك وأعرف فيك ملامح قد تجهلها أنت ويجهلها كثير ممن حول. قال: قد يجهل المرء نفسه وما هي أهم الملامح التي تبرز الصورة التي تعرفينها؟ قالت: الطموح.. وحب الحرية. والتكلم.. والصراحة.. والعناد.. والخيال، وهذه أشياء قد تنفع وقد تضر أيضاً. وقال صاحبنا: هذه ملامح من ناحية واحدة ولكن هناك ملامح أخرى فأنا غير حر. وهتفت أنا حرة.. وقال في همهمة: هذا عنون قصة للأستاذ إحسان عبد القدوس.

قالت: قرأتها وقد فرغت منها وهي الآن بين يدي وتعجبني صراحة إحسان وحبه للتجديد، وهو كاتب قصاص دقيق رقيق. كاتب ستثبت الأيام جدارته وقيمته..وقال صاحبنا.. أنت تصلحين بطلة قصة.. ليتني أكتب عنك قصة!! قالت وهي تمسح جبينها بيدها ثم تسوي بها خصلات من شعرها المتهدل وتصلح من جلستها وتخرج الكلمات في تؤدة وتؤديها في اتزان: أنا حرة وأقدس الحرية.. قال أنت حرة وأنا عبد.. وهتفت في تساؤل عجيب وظهر هذا في نبرات صوتها المتهدج ولمعت عيناها بتساؤل غريب.عبد؟ عبد؟ إنك فيما أعلم تقدس الحريات وتدعو لها؟ قال بل (يا ليلاي). وهنا قاطعته: لا تتسرع ليس لك حق الإضافة إنها أنانية وأنا أكره الأنانية، من أين لك حق الإضافة؟ ما هذا التسرع وهذا مجرد حديث ومسامرة أدبية مالك عجولاً؟ قال لأني إنسان.. وخلق الإنسان عجولا.

نشر هذا المقال لأول مرة بتاريخ 27 / 6 / 1954م.

مقالات ذات علاقة

لم الدِّين ولماذا التديّن؟

المشرف العام

أرواح بـريـة

سالم العوكلي

قال لي زكريا !

حسام الوحيشي

اترك تعليق