دراسات

شعرية اللغة وجماليات السرد

قصة أنا مجدولين للمرحوم محمد ساسي العياط انموذجا

من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.
من أعمال التشكيلية الليبية نجلاء الفيتوري.

1.1 حكاية القصة

تحكي قصة أنا مجدولين للمرحوم محمد ساسي العياط قصة سيدة تشعر بألم ناتج عن تصرفات الزوج بعد مضي زمن طويل من زواجهما. هذا الزوج طالما كان يحركه الغضب، وعندما يغضب فإنه يترك البيت ولا يعود إليه إلا بعد زمن طويل. نتابع القصة وتعرف أن اسم السيدة مجدولين وهو ما يعني في أصوله القديمة المرأة الطيبة. هذه المرأة الطيبة توضع في مواجهة ذلك الغاضب دائما. لا يقدم الراوي تفسيرا للأحداث، ولكنها تقدم من وعي يشعر بالألم هو وعي تلك السيدة، فنحن لا نعرف لماذا غضب ذلك الغاضب وصفق الباب خلفه. ندرك من خلال الصور في القصة أن هذا الغضب بدأ بعد زمن طويل من الزواج، وأن السيدة صارت الأن كبيرة السن وتشعر بجرح الإهانة وجرح ظروفها التي تعيشها، فيما هو غاضب غضبا لن يستمر، وهذا ما تعلمه السيدة؛ فغضبه سيدوي كما يدوي عقب السيجارة ويبقى تاركا منزله الذي صفق بابه غاضبا.

2.1 مكونات البعد الشعري في القصة

سنتابع ما يمكن أن نتصوره مصدرا لشعرية النص من خلال نماذج نستعرض فيها جزءًا من القصة بشكل يوضح المقصود.

أولا. لعبة الضمائر واللغة في بداية القصة ومفردات النص في دائرة النار والألم:

تبدأ القصة بكلام غير مباشر يحكي عن شخص ما يخرج وعن أخرى تتأذى من خروجه الغاضب وتركه لأسرته أو للعائلة وحدهم، ونجد أن ذلك يتم من خلال توظيف مميز مقصود للضمائر أثناء السرد مع خطاب غير مباشر مصاحب لذلك السرد الذي تتغير فيه الضمائر بدقة وحرفية:

“(أ) تماماً كأن تخرجَ مُسرعا وتصفعَ الباب خلفكَ بقوةٍ

مُصدرًا ذلك الصوت

(ب) تاركاً تلك النظرة الحائرة .. على وجوهنا

(ت) غيرَ آبهٍ لطريقتي في التنفس

غيرَ مهتمٍ .. على غير عادة .. لضرباتِ قلبي

(ث) غيرَ مُكترثٍ لروحِها هناك .. خلفك !

(ج) كل هذا فقط، لأنك اشتطت غضباً

ولسوف يخمد غضبك

(ح) وتتقد مع الريح المنبلجة من مواربة الباب جمرةٌ صغيرة .. في داخلي

يهمدُ اللون الأحمر ..(خ)  يشتعل الرأس شيباً، تشيب الجمرة أيضا، تذروها المشاعر، فتصير رماداً لا يقوى على شيء “.

تتميز القصة كما يمكن ان يلاحظ القارئ بلعبة ضمائر مميزة تتبدل وتتغير؛ وهي ضمائر يوظفها الراوي ليغير اتجاه الخطاب في القصة التي تقوم على أن هناك شخص ما يخاطب شخص أخر.

نتابع في (أ) الشخصية، ويبدو أنها الزوجة، وهي تكلم ذلك الخارج غاضبا، فتصف فعله كأنما لم يحدث من خلال تشبيه ذلك الفعل (بـ تماما كأن تقوم بكذا )، بحيث يصبح ما قام به من فعل يكاد يكون غير حقيقي أو غير قابل (تماما) للتصديق. وتمضي في (ب) لتصف تأثير خروجه عليهم، ويبدو الضمير هنا عائد على أسرته التي لا يهتم بها. في (ت) مجدولين تحدثنا عن فعله تجاهها -بشكل مباشر- وهو يتركها مجهدة غير قادرة على التنفس، غاضب على غير عادته فقد كان يبدو أقل غضبا فيما فات، وهنا نحن أمام نفي (على غير عادة) ينتج عنه تواتر فعل سابق مختلف أو عادته سابقا. بينما ينتقل الخطاب في (ث)  ليحدثه عن تلك التي ليست إلا هي المتحدثة لكنها هنا بلعبة الضمائر تحدثه كشخص غريب عن سوء فعله تجاهها وهو انتقال فيه تميز، وتحول للخطاب من الاستجداء إلى اللوم والتعنيف. ثم نجد في (ج) خطاب الزوجة مباشرة له. حديث فيه لوم وتقريع وعلم مسبق بان ذلك الغضب سينتهي. بينما في (ح) صورة مميزة يرسم الراوي ذلك الغضب عندها وكيف يتقد من جمرة الباب التي تمّ إقفاله في غضب وبقوة. ونجد في (خ) حديث غير مباشر يحكي عن العمر وعن اتقاد الرأس شيبا وهو لوم بشكل مميز على كل ما يقوم به ورصد لعمر الشخصية وضعفها مع الشيب وحجم الخيبة مع زوج كهذا.

تابعنا بعض النماذج من تلك المصطلحات التي تدور في إطار الحرقة والنار في المقطع الاول؛ حيث الشخصية خرج وترك بيته غاضبا متقدا تاركا نارا في قلب صاحبته التعيسة. الأن وقد تابعنا الحالة التي عليها البيت بعد ترك الزوج الغاضب له، سنتابع في المقطع التالي حالة الشخصية وقد بلغت عمرا وشاب رأسها، ثم نتابع الماضي بينهما. نتابعه من خلال بكاء الشخصية على ما حصل لها، وتذكرها للماضي وللقيم المميزة بينهما.

ثانيا. تقديم الحكاية بشكل غير مباشر بلغة شعرية وبشكل رمزي

يتم في هذه القصة إبراز أثر الزمن على الشخصيات من خلال صورة غير مباشرة، الراوي يجعل الشخصية تتحدث وهي تتحسر على الماضي، بدأ ذلك في (أ) من المقطع التالي، ثم في (ب) تحديد عمر الشخصية ووضعها النفسي من خلال صورتها والتحولات الحاصلة لها، فشعرها لم يتبقى منه إلا القليل وهو رمادي. هذا التحسر على الماضي يأتي في إطار ترك زوجها لها وصفقه الباب وسفره غاضبا لزمن قد يطول. نتابع في (ت) شعور السيدة بالفشل والألم وارتماءها فوق السرير في صورة شديدة التميز تعبر عن القهر والحسرة على الماضي الذي سيتم تعريفنا به فيما بعد.

“(أ) ها أنا ذي .. أجلس عند المرآة بعينين شاحبتين

(ب) أمسكُ بما تبقى من شعرٍ، أُضَفْرِهُ متحسسةً اللون الرمادي؟ ألا يرتضي الزوال بعد؟ أهكذا كان؟ أهكذا كنت؟

(ت) أًطلق شهقةً كئيبة، أُتْبِعُهَا بصوت ارتطام المشط بالمنضدة، أحملُ ما تبقى من جسدٍ من على الكرسي، أسترقُ لنفسي بالمرآةِ ابتسامةً أخيرة .. وأهيمُ بلا هوادة …مرميةً فوق السرير

ثالثا. توظيف السرد التأملي أداة لتقديم الحكاية:

تميز المقطع التالي بتوظيف البعد التأملي فيه فهو مقطع تأملي باقتدار. السيدة التي عاشت قديما وهم الحب ثم الزواج، تتحدث عنه حاليا من خلال تصوره الجديد له. نتابع اللغة المميزة الشعرية المقطعة بحسب كتابة الشعر تقريبا، حيث في (أ) يصبح الماضي القديم المميز وحياة الحب بين الزوجين نوعا من الالم والبؤس، وهي كلها تدور في إطار الحالة التي تعيشها الشخصية وتدور في دائرة النار واللهب والاحتراق، والماضي المؤلم، والحاضر التعيس؛ حيث الشيب والقلق وحقيقة الحياة المؤلمة. بينما في (ب) نتابع مناقشة الراوي على لسان الشخصية لفكرة الحب، أو ما يبدو وهم الحب، ويصبح هو نفسه أداة لرسم الماضي عندما سكنها ذلك الشعور، والحاضر عندما صار القلب مهجورا فارغا، بينما نجد في (ت) صورة الشخصية متألمة وهي تتحدث عن مضغ الزوج له ورميها كسيرة تعيسة وتتحدث عن آلامها.

“(أ) هنالك أشياءٌ  جميلة

أشياءٌ تعيث بي فساداً .. تقتحم مخيلتي، تُلهب كبدي، تصهر العقل وما تبقى، وترميني هناك كالمعلقة وليتني .. أُشنقُ داخل ذاتي، أو تقتلُ تلك الأشياء .

(ب) الحب؟

لا ضير في كونه كلمة

لا ضير في الإحساس به

لكن .. أن يسكننا .. ثم يتركنا؟

فتسكننا الأرواح والأشباح !

تتصدعُ الأفئدة !

تلقي بتلابيبها المسجية بالدماء خارجا

(ت) كشبح امرأة !!

تجرُب تلابيبها الآلام .. محاولةً أن تتقي حجارة الأوغاد

أهذا ما يفعلها لحب؟

غير كونه يجعلك هشاً

يجعل منك مضغة !

يمضغونك؟؟

يرمونك؟؟”

رابعا. نهاية القصة وانتباه الشخصية لنفسها و دائرية السرد

في نهاية القصة نجد صورة مميزة ترسمها الشخصية لنفسها وهي تتألم وتحدد وضعها في الحاضر بعد زمن واهم. زمن كانت فيه سيدة زوجها وقد صارت الأن مجرد شيء زائد عن الحاجة، لهذا فهي تكتب له وتحدثه مباشرة منهية القصة في (ب) بنفس ما بدأت به في اول القصة على صورته وهو يخرج غاضبا يصفق الباب.

“(أ) إنها أنا .. مجدُولين ..  لا أحد غيري

الجميلة .. والشمطاء الحاقدة

التي خلفتها خلفك وحيدة

(ب) تماماً عندما خرجَت مُسرعا صافعا الباب خلفكَ بقوةٍ

مُصدرًا ذلك الصوت”

خلاصة:

اشتغل المرحوم محمد ساسي العياط على الشعرية في النص ورصد أزمة غير واضحة الحدود بين السيدة ورفيقها ورصد التحولات عبر الزمن؛ كذلك طبيعة الأزمة الحاصلة الأن ظاهرة لكن ليس بشكل واضح مكتمل الوضوح وإنما مبهمة، الراوي أراد أن يضعنا في حالة أكثر من أن يوضح لنا الأسباب أو النتائج.

جعل القاص من القصة نتيجة لشعريته المميزة تتحول من مجرد شكوى امرأة عادية فقدت رفيقها إلى أزمة إنسانية، القصة على لسان سيدة تحكي عن رفيقها القديم وتبكي تحولاته وتبكي تحولاتها من خلال الشيب والجسد المرهق؛ حيث  تستعيد حميمية الأيام القديمة وتمضي وهي تنجز النص لنجده مفتوحا على تأويلات متعددة.

 يرتبط في هذه القصة الجانب الاجتماعي للعلاقة بين زوجين والجانب النفسي مع لغة شعرية غائمة، وظف فيها الراوي لغة غاية في الشعرية، وجعل من حكاية السيدة مجدولين مميزة بحكم أنها تقدم بشكل غير مباشر، وبحكم أنها تعيد تصوراتها في الماضي.

كان لتوظيف لعبة الضمائر في بداية القصة دورا مميزا في صناعة شد مميز للمروي له، كما للمصطلحات الدائرة في حدود الحرقة والنار والحسرة واللوم دور مميزا في بناء أزمة السيدة. وظف الراوي البعد التأملي ليرسم أمامنا ما تعيشه مجدولين خاصة وهي تتألم نتيجة الفقد ونتيجة للكذب ولأوهام الشباب التي عراها الزمن، ثم في نهاية القصة أبرزها بعزم جديد مؤلم على البقاء رغما عنه. الراوي وهو يقفل القصة بنفس جملة المفتتح جعل من زمان سرده دائريا، وهو يعيد حدث مغادرة الزوج للبيت الذي بدأ به قصته في أولها وأنهاها به.

مقالات ذات علاقة

هكذا يخسرُ الأدبُ الليبي .. كتابُ (القصة القصيرة في ليبيا: نشأتها وتطورها) نموذجاً

يونس شعبان الفنادي

البناء النصّي في شعر عبدالمنعم المحجوب (10) .. جدلية التعاقب والتراتب في أزمنة القصيدة

المشرف العام

أساسيات التأليف في الآداب

يوسف القويري

اترك تعليق