سرد

طفولة بلا طفولة*…!!

من أعمال التشكيلي مرعي التليسي

حاولت بالأمس أن أعود طفلاً نزقًا يتصرّف بلا حدود، بدون عيون غاضبة تثقب ظهره …بدون ألسنة جارحة تقطع أوصاله بدون قيود اجتماعية ترهق كاهله.

طفلاً يتصرّف بحرية وبراءة، وينطلق في ملكوت الله صادقًا صافيًا نقيًا طاهرًا عاشقًا كل شيء جميل ممتع في الوجود.

زيارة واحدة لمدينة (والت ديزني) جعلتني أحاول أن أحطِّم تراكمات السنوات الطويلة القاسية، وأن أمحو الحزن القديم الذي أصبح وشمًا أسودًا على صفحة القلب ..

آه لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة عجيبة؟

هل يذكر أحد من جيلنا طفولته جيدًا ؟
أنا شخصيًا لم أعرف الطفولة في حياتي ..الطفولة بمعناها الحقيقي وليس الشكلي …
لقد كانت طفولة بلا طفولة..
طفولة بائسة فقيرة في كل شيء
فقر في المادة وفي الروح وفي العلاقات الاجتماعية.
حفاة نسير..
عراة نتقافز في الطريق…
نومنا على الحصير الذي آثاره على أجسادنا الصغيرة..
خبزنا إن وجُد جافٌّ قاسٍ كحجر صلد..
بيوتنا تسكنها عشرات العائلات…
حجراتنا يتناسل داخلها الآباء…ويقذفوننا الواحد تلو الآخر لنحتل مكاننا في ركن من أركان نفس حجرة التناسل..
آه لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة ..؟
حتى الضحك نسرقه فالضحك بدون سبب يؤدي عادة إلى الجحيم حتى لو كنت طفلاً….
تحت (البطاطين) المهلهلة في ليالي الشتاء نسرق الضحكات، ولكنّ النوم لا يملأ عيوننا إلا بعد أن تمتلىء بالدموع جزاء سرقتنا للضحكات بدون ما سبب يدعو لذلك ….

لا نعرف الموسيقى ولم نسمعها إلا مرة واحدة في المدرسة عندما ردّدنا نشيدًا وطنيًا فشتمنا مُدرِّس الموسيقى لأن أصواتنا نشاز ولم نشاهده بعد ذلك قطّ …
لا نعرف إذاعة تحمل أغنية أو تمثيلية أو قصة أو خبرًا*

لم نسمع أصلاً كلمة (تلفزيون) ولو سمعنا عنه لما صدَّقنا رغم أننا نصدّق خرافات الغولة ذات العيون التي ينطلق منها اللهيب*…
لا نعرف مدينة للملاهي..لا نعرف أساسًا كل هذه اللعب التي تغرقنا بها الآن (اليابان) و(الصين).
لا نعرف قصصًا مطبوعة للأطفال..أو مجلات خاصة بهم.

آه لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة ؟

وُلدنا رجالاً أجلافًا منذ اللحظة الأولى …نفوسنا خشِنة جافة قاحلة.
لم يتفتّح وجداننا الصغير إلا على زعيق الأب وضربه المبرّح لأُمّنا.
لم نعرف من الحنان ومن أصول التربية سوى (فلقة) الشيخ، والوقوف أمام الحائط بالساعات أيدينا إلى أعلى، وعلى ظهورنا الصغيرة مكتوب بالطباشير (حمير الفصل)…!

العصا تطاردنا في كل مكان..
كن رجلاً….
وأنا شخصيًا كنت رجلاً وأنا في الخامسة من عمري…
فالتمزّق العائلي أفقدني الإحساس بالطفولة حتى في مظهرها البائس المعذّب..
عليَّ أن أكون رجلاً في كل الأحوال…
عليَّ أن أكون رجلاً حتى لا يستأسد عليَّ مدير المدرسة ويطردني لأنني لا أملك (مريول) المدرسة الأسود.
وعليَّ أن أكون رجلاً وأبي يطاردني كثور هائج داخل أزقة (أبي الخير)

آه …لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة؟

لا أكترث كثيرًا عندما نناقش أمورالأدب والفن عندنا ونكتشف أننا نعاني نقصًا فادحًا في عدد المبدعين …
فهل يُولد المبدع في هذا الجو البائس الخانق القاتل ؟
إن المبدع لا يُولد من بطن أمه مبدعًا …ولكن قدرته على الابداع تتفجّر من خلال مراحل الحياة التي يمر بها…
وأيّ إبداع يمكن أن تُثمره (فلقة) الشيخ وعصا الأب وقسوة المدرِّس ؟!
أيّ إبداع يمكن أن يتفجّر في ظل الفقر والجوع والمرض ؟
أيّ وجدان فنيّ أو أدبيّ يمكن له أن يتكوّن داخل مجتمع تنعدم فيه الطفولة وتفقد ملامحها ؟

لقد كسر البعض هذه الأسوار وأبدعوا فكانوا بحق أبطالاً يجب أن نحتفي بهم …
لكنّ الشيء المؤكد أن الأجواء الاجتماعية والنفسية والتربوية التي خنقت طفولتنا قد خنقت معها عشرات من المبدعين كان من الممكن أن يملأوا حياتنا بدفء الإبداع الإنسانيّ…

فآهٍ لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة؟

وها هو العام يبتلع العام ..وها أنت في (أمريكا) في أعظم مدن الأطفال في العالم تحاول أن تعود طفلاً نزقًا يتقافز هنا وهناك بدون (فلقة) الشيخ ووثاق الأب الدامي والجوع لكسرة الخبز الجاف .
ها أنت في (أمريكا) جيوبك مليئة بالدولارات تحاول أن تعود طفلاً نزقًا لا يبالي بأحد…

ولكن..
أين تهرب من تراكمات السنوات المظلمة الطويلة؟
أين تهرب من وشم الحزن الأسود داخل قلبك؟
أين تهرب من الشيب الذي بدأ يغزو مفرقك؟
أين تهرب من الحقائق التي تنتظرك؟
أين تهرب من الواقع الذي يترصّدك؟

فآهٍ…لماذا يشيخ الأطفال عندنا بسرعة؟

الولايات المتحدة الأمريكية
شتاء عام 1973م


الهوامش
*دخلت الإذاعة بيتنا عن طريق جهاز الاستقبال عام 1961م
*دخل جهاز التلفزيون بيتنا عام 1968م وتعتبر تلك فترة مبكرة جدًا لدى مجموع شعبنا
*فصل من كتاب (هوامش على تذكرة سفر) صدر عام 1978م.

مقالات ذات علاقة

رواية الحـرز (43)

أبو إسحاق الغدامسي

رواية ديجالون – الحلقة 12

المختار الجدال

والجوبة بعيدة…

خيرية فتحي عبدالجليل

اترك تعليق