(1) ما تصنعه الأجهزة الخفية …. !!!
كان يحلو لمحمد رضا بهلوي، شاه ايران المخلوع، أن يتباهي أمام زواره بطول وعمق علاقاته بالدول الكبرى ودوائر صنع القرار فيها… وكيف أنه قد أدرك مبكرا في حياتة ضخامة الدور الذي تلعبه الدول الكبرى في تشكيل سياسات بلاده وتاريخ المنطقة … وبالذات الدور الذي تلعبه الأجهزة الخفية لدول مثل بريطانيا وأمريكا في صنع الملوك والممالك… وإزالتها.
ما كان يتجنب الشاه ذكره هو كيف قامت قوات التحالف باحتلال بلاده والإطاحة بوالده رضا بهلوي وتنصيبه كحاكم للبلاد عوضا عن ابيه الذي تم نفيه الى جنوب أفريقيا. وكيف أن بريطانيا في بادئ الأمر ثم تلتها أمريكا كانت تمارس سلطات واسعة عليه وكان لها نفوذا طاغيا في البلاد. وكيف أنه.. على غرار العديد من زعماء العالم الثالث لم يختر أن “يتحدى هذا النفوذ أو يقاومه”.. أو “يوظفه لبناء بلاده” .. بل العكس.. استسلم له وارتبط مصيريا به…
ازداد هذا الاستسلام رسوخا وتحولت الى ما يشبه العقيدة.. عندما نجحت هذه الأجهزة الخفية في التصدي لرئيس وزراء ايران محمد مصدق الذي كان اول من تجاسر في المنطقة وقام بالأمر المستحيل آنذاك.. ألا وهو تأميم النفط وتحدي مصالح الشركات والدول الغربية (اغسطس 1953)… كانت ردة فعل دوائر المخابرات الانجليزية والامريكية غاية في القسوة والحدة.. حيث اشتركتا في تصميم عملية “أجاكس”.. التي نجحت في خلق أزمات معيشية حادة بإيران وفي شق صفوف أنصار مصدق وانهيار التحالف بين البازار واليسار.. واخيرا شل حركة البلاد عبر المظاهرات والاضطرابات وتمهيد الطريق امام دبابات الجنرال زاهدي لتقود انقلابا ضد مصدق وتعيد الشاه الهارب من ايطاليا الى قصر الملك بطهران.
رسخت هذه التجارب اقتناعا لدى الشاه بأن الارتباط الوثيق بالسياسات الغربية والتماهي معها ووضع مقدرات البلاد في خدمة إستراتيجيات هذه الدول(حتى وان لم تتماشى مع مصالح البلاد التي يحكمها)..هو ما يضمن بقاؤه على سدة العرش.. وكعادة “الصغار من الحكام”.. تطرف الشاه في عداءه لخصوم الغرب في المنطقة.. بل وصل الأمر به الى المساهمة في الحرب الأمريكية ضد شعب الفيتنام الذي لا تربطه بإيران لا حدود ولا تاريخ و لا حتى مصالح مشتركة.
اعتقد الشاه ان حصونه منيعة وان السادة الذين يخدمهم سيحمونه حاضرا ومستقبلا كما حموه في الماضي. ونسى كغيره.. ان الدول الكبرى “لا عواطف لديها”.. فهي كما لخص تشرشل ذلك ذات يوم بوضوح لا لبس فيه
” لا توجد لبريطانيا صداقات دائمة.. او عدوات دائمة… وانما مصالح دائمة”… ونسى الشاه كما سينسى غيره… ان المصالح تتقلب وتتغير.. ونسى “أن قيمة ” أي حاكم في العالم الثالث بالنسبة للغرب ليس في “إخلاصه” وانما في “الحاجة” إليه….
لذا كانت صدمة الشاه كبيرة عندما تخلى الغرب عنه في مواجهة المظاهرات الصاخبة والمستمرة بايران… وعجز كل العجز عن فهم كيف يتخلون عنه.. ويروي أخر سفراء بريطانيا في كتابه عن ايران .. كيف ان الشاه في اخر أيام حكمه.. لم يعد ذاك “المخلوق المتعجرف المتأنق الغارق في الطقوس الإمبراطورية”… وانما شخص “معزول بائس وكئيب ومصدوم”.. لا يصدق أن الشعب هو الذي في الشارع.. بل هي حشود من صنع السفارة الإنجليزية.. وأنه رغم كل شيء.. سينتصر.. وأن “معجزة” ما ستحدث… ربما في باطن عقله كان يتخيل كيرميت روزفلت أخر وعملية مشابهة لأجاكس تعيده لعرشه الامبراطوري…. غير أن كل أحلامه تلاشت عند اخر لقاء له مع أخر سفير لامريكا بايران ويليام سوليفان الذي هز الشاه المصدوم من يده وقال له بصرامة ووضوح.. “حان وقت خروجك من إيران”.
لتبدأ بعدها رحلة البحث عن منفى يقبل الإمبراطور… رحلة تم فيها استنزاف ما تبقى من عقله.. وصحته.. وماله… لتبدأ بعدها رحلة اخرى من البحث له… عن قبر يأويه.
الغريب في الامر أن سيرة شاه ايران تكررت من بعده وإن كانت بأشكال اخرى.. ولا زالت تتكرر.. وكأن قدر هذه المنطقة هو إعادة انتاج مأسيها.. بدقة متناهية.. تحسد عليها.. وهذا قدر كل الشعوب التي لا تقرأ… ولا تمنح الاجيال فرصة معرفة ما الذي حقا جرى.