قراءات

دم أزرق …للبحر عروق زرقاء لا تملكها السماء

(قراءة في مجموعة دم أزرق القصصية للقاصّ محمد النعّاس)

غلاف المجموعة القصصية(دم أزرق)

(شغفته حبًا،كان يحلم بها كل ليلة يرى نفسه في مكان الغزال…لطالما حسده، ظلت في مخيلته طيلة سنين حتى تمكن من العمل في المدينة) فور انتهائي من قراءة هذه القصة المعنونة بــ(مجنون إغزالة) حتى طفقت أفتش عن”النِعمي” في محيط ميدان الغزالة وبين شجيرات حديقتها،أفتش عنه وعن أي أثر يدلني على مصير الحورية الحسناء مدفوعًا بعشرات التساؤلات، هل امتطت الحورية غزالتها وفرّت؟ هل أضجرتها الوجوه الكالحة المارّة كل يوم هل تعرّضت للإغتصاب ؟ لماذا جَبنت عن الصراخ أو النحيب أثناء انتهاكها ؟ أين وجدت جُثة “النِعمي” لاحقًا ؟ فهنالك من يشيع بأن زملاءه عثروا على شريانه الأيسر ممرغًا بتراب الحديقة ! كيف علّموا النهار أن يخرس في بلادنا ؟ لم أجد أكثر من هسيس دفين يسكنني وفراغ يوحي بأن كأن شيئًا لم يكن !! في ليلة شؤم تبخّرت الحورية وغزالتها و”النِعمي” الذي زهد في وظيفته كشرطي وتولّع بغواية الحورية،هو كذاكرة المدينة المفقودة يبحث عن حليب أمه من نهد الغزالة المهددة بالفِناء لكن بعدما ذبل!، هذه الرمزية الباذخة التي وظفها القاص مختزلاً مشهد الفزغ في ترنح “النِعمي” عقب استيلاء حفنة من اللصوص على التمثال في الهزيع الأخير من الليل، لقد ثقل رأس المدينة بالدماء والسؤال العقيم يطفح على جلد النهار أين ذهبتم بها كنت سأنقذها وأهديها للبحر.

بادىء ذي بدء وأنا أقلّب المجموعة بين كفيّ شوّشني الغلاف المبتكر المُحاكي لشكل عُلبة السجائر نوع (رياضي)والموسوم بعنوان هامشي (القراءة تُضرّ بالصحة) واستحوذت على ذهني فكرتان،الأولى هي أن أبحث عن فتحة أُخرج منها سيجارة وبالتالي أضمن لفنجان قهوتي مؤنسًا والثانية هي أن القراءة فعلاً طقس يستنزف من صحتنا ويودي بنا نحو الهلاك والصدام مع محيطنا الإجتماعي… ومحمد النعاس لا يمهلنا وقتًا لإلتقاط أنفاسنا والوقوف على ملامحنا في المرآة فهو يسوقنا من حواسنا إلى مجموعته القصصية (دم أزرق)، لاسيّما عبر هذه القصة التي تستفز الحنين وتمارس الهوى على قارعة الطريق، نعم فالنعاس كما أراه أحد أفضل الكتّاب اللذين يؤكدون انتمائهم لأبناء جيلنا ببساطة محرجة، فهو حكّاء من طراز فريد يمتلك أدواته الفنية ككاتب قصة ويسعى في كل عمل جديد لتحديث مفرداته وقاموسه الأدبي .


لاريب بأنك كقارئ لما يكتبه وينشره النعاس ستصطدم بمرآتك المكسورة فأنت ذاك (البيقي) الذي يمقت الليالي لأنه يخشى الأحلام وعصا أمه الغليظة أنت أيضًا من يترقب سقوط الشمس في حِجر الأفق كي يهمّ بإعداد لفافة الحشيش، وستدهش من فكرة حنين الليبي الشريد في حانات لندن الرخيصة للوطن من خلال جودة مخدر الحشيش ! الذي يُباع في الأزقة الخلفية لمنطقة قرقارش ! هذا كل ما يُذكّره بليبيا ويشدّه إليها بحسرة ما…وبالتالي نستقرؤا ملامح الليبي المعاصر ببساطة تشعرك بالذنب ربما لأنك ليبي ! ففي قصة ليبوفوبيا تكون الطفل المرعوب والمُرعب لاحقًا .

الكاتب والقاص “محمد النعاس”

(الآن أصبحت تدرك أن كل مخاوف الطفولة من الجن الكلاب القطط الله الشيطان الجحيم الظلام الإبر المستشفيات المرض وما تبقى من الأمراض التي أصبت بها لا تساوي خوفك من هذا الكائن إنك تراه إنه يراك إنك تحتك به أيامك كلها انه الانسان، الانسان الليبي لنكون واضحين) نحن نعيش على أرض واحدة ونقف تحت سماء مشتركة ومع ذلك يرتعب كلّ منا من الآخر ! نتوجس إذا ما هاتفتنا أرقام مجهولة ! ونتحاشى مصافحة بعضنا أثناء السفر ! قصة ليبوفوبيا سطورها مثخنة بحقيقة تطبق على خِناق الوقت فلطالما ادعينا نحن معشر الليبيون والليبيات بأنّا كالسمن على العسل ندهن به خبز أيامنا ونستودع الله آمال غدنا المأمول ! وكم بدت الحقيقة جامدة بالحلق الجافّ بين سطور ليبوفوبيا، يا لهذا الوحش المتربص بنا ومنّا !! صرنا نأوّل النظرة بخبث وخنسّ .


إن الطفل الذي تُفزعه الجنون ونباح الكلام ويلقنه أبواه حب الله وكره الشيطان استحال إلى بالوعة إلتهم فيها أبواه وصلب الله والشيطان على جذع شجرة يابسة ! الطفل نما خائفًا وشبّ وعلى خصره تتدلى فوَّهات النار -جواز المرور لقتل الخوف لقتل الفقر ليتساوى الغني والفقير في قبر واحد .


ولعل هذه السطور لهي دعوة واضحة لقراءة أدب جيل مختلف يمثله النعّاس أدب أنضجت هُويّته الإبداعية ويلات الحروب وسياسات التهجير الممنهج وتنامي الظواهر المأفونة، أدب سبق حركة النقد الغائبة أصلاً بسنوات ضوئية وما أن يستوي للنقد خطاب موحّد يكون قد أصيب كتّابه باللهاث جراء مواكبته ! في دمٍ أزرق تفاصيل يُغمض النهار عينيه عنها فما تلبث أن تجد هذه الأصوات المكبوتة فرصتها للصراخ على صفحات هذه الباقة .

مقالات ذات علاقة

ثلاث روايات من القائمة القصيرة للبوكر العربية

مفتاح العماري

أخضر يابس السبر الموجع في أعماق الفرح المؤجل

نيفين الهوني

وقفاً عليها الحب: قلب التليسي النابض شعراً .. بين الخجل و البوح

إنتصار الجماعي

اترك تعليق