يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.
الحلقة: 10/ مـن يحاكـم من؟.. شجاعة الشباب أربكت هيئة المحكمة!!
قبل بداية الجلسة الأولى وقبل دخول هيأة المحكمة، اقترب منا بعض المحامين في محاولة منهم لخلق نوع من التواصل بيننا وبينهم، وخلق جو من الحوار والتفاهم لكى يساعد ذلك في إعـداد خطتهم الدفاعية، فكان حوارًا هامسـًا من خلال شباك القفص الذى يحجزنا عنهم وكان المرحوم الشاعر المحامى (على صدقي عبدالقادر) أكثرهم خفـة دم وعذوبة روح حينما سألنا: هل الطعام جيد لديكم؟ وهناك أسرّة؟ ويدخلون لكم الكتب؟
وحينما قلنا له: نعم، قال: إذ ًا أحجزوا لي سريرًا.. بينكـم فسأكون معكم قريبـًا.
بعد لحظات سمعنا المنادى ينعق بصوت خشن لا روح فيه: محكـمه…
ودخل القاضي وخلفه مستشاريه الأثنين وممثل الادعاء العام، وجلسوا في أماكنهم وجلس كل من في الصالة من الأقارب والمخبرين (والذين لا يتجاوز عددهم الثلاثين على الأكثر). وأعلن القاضي عن فتح الجلسة واستدعى أول المتهمين ليردد المنادى” “عبدالسلام محمد الزقعار”. الذى تحدث عن العروبة والتاريخ والجغرافيا واللغة التي تجمع العرب ودافع عن حركة القوميين العرب، وأكد أنها انتهت كحركة نتيجة تجنحها واختلاف قياداتها في الفكر والمنهج، ثم حاول ان يتخلص من محاصرة القاضي له بالأسئلة المربكة وكانت إجابته على كثير من الأسئلة: أرفـض الأجابة.
ثم نودى على المتهم الثانى (عزالدين الغدامسي). “عزالدين” هذا كان في شكله العام نظيف البشرة نحيف الجسد أجعد الشعر شفاهه غليظة يمسح حولها بإصبعيه بين الحين والحين. كنت أرى فيه ملامح وهيئة القادة الجزائريين، وكان صلبًا شجاعًا حتى التهور ولذلك تقدم بكبرياء وعنفوان وجلس على كرسي الاستجواب وتحدث عن العرب والعروبة ووحدة الهدف والمصير في كل الوطن العربي وأجاب على كل أسئلة المحكمة برباطة جأش وثـقة، وقد أربك القاضي ووتره، لأنه لم يكن ينظر إليه وهو يتحدث، تخلص القاضي من “عزالدين” بصعوبة وكأنه كان يتبادل الأدوار معه (عزالدين كلفه الطاغية في بداية الثورة سفيرًا لدى النمسا ولكنه غادر مقر السفارة وانضم الى المعارضة حتى وافاه الأجل).
لينادي المنادى على (عمر مصطفي المنتصر)، الذى كان عكس “عزالدين”، فهو ضخم الجثـة، أبيض حتى يوشك أن يكون أشقرًا يرتدى نظارات طبية، وكان على عكس رفيقيه كثير الضحك يحب المرح متواضع في كل تعاملاته، مثقف ثقافة إنجليزية متميزة، فهو خريج الجامعة الأمريكية بيروت (كان عمه يومها ياورًا خاصًا لدى الملك “محمود المنتصر” ورفض التوسط لديه)، وواجــه بكــل شجاعة مع رفيقيه هذا الوضع الظالم.
لعله اكتفي بما قاله زميليه، فلم يقدم كلمة حول العروبة والحركة بل اكتفي بالرد على أسئلة هيئة المحكمة بهدوء وثقـة قدرتها له المحكمة، فلم يطل زمن استجوابه (كلمة للتاريخ أيضًا لا أحد يلوم “عمر مصطفي المنتصر” الذى رحل عنا بأنه انقلب كما صنفوه عميلا للقذافي وتعامل معه حتى أصبح في وقت من الأوقات، أمـينـًا للجنة الشعبية العامة -رئيس وزراء- فالرجل تورط تدريجيـًا وربما كان لديه أمل أن يصلح ما أمكن الإصلاح، ولعل موته في ظرف غامض وهو وزيرًا للخارجية، يعطيه الحق لنقول عنه أنه شهيد من شهداء عسف وظلم وتآمر القذافي).
ويتوالى بعده المتهمون واحدًا واحـدًا، وبعد الظهر أعلن القاضي رفع الجلسة لتعود للانعقاد في مساء نفس اليوم، وفي الجلسة المسائية استمر استجواب الكثير من المتهمين وتهربًا من الوقوع في مصيدة الاستدراج وخوفًا من التناقض في السرد، لجأ أغلب الشباب إلى كلمة واحدة يردون بها على أي سؤال وهى: أرفض الإجابـة.
ربما كان الوحيد الذى غضب وفقد القدرة على الصمت فانفجر غاضبـًا الشاب (صالح الفرجانى) من بنغازي، والذى قال وهو يضرب الطاولة بقبضته: إن كان في انتمائي للأمـة العربية جريمـة، فأنا عربـي.. عـربـي.. عربـي. وصفقنا له مما سبب حرجـًا وإرباكـًا للقاضي الذى رفع الجلسة لتعود إلى الانعـقاد غـدًا.
فإلى جلسة الغد، والتي سنتحدث عن بعض تفاصيلها في الحلقة القادمة إن شاء الله..
الصورة للمحامي الشجاع الوطني ” كـامل المــقهور “، أهدتها لي ابنته الكاتبة المبدعة “عزه المقهور” بارك الله فيها.