قصة

حنين

أسماء مصطفى

استيقظت ذلك الصباح مبكرا كعادتها…. ولكن شعورها اليوم يختلف عن اي يوم آخر…. الفرح يملأ قسماتها المرسومة بالوشم ويغمر تلك الاخاديد والشقوق التي حفرتها بوجهها الايام والمحن والخطوب….. لم يواسها القدر الا بالأمس عندما زينت عروس ابنها البيت الذي لازمه الحزن وغلف جداره الصمت مذ توفي زوجها واستشهد ابنها الثاني في تلك الحرب اللعينة ولم يبق لها سوى ابنها احمد في هذه الدنيا.

اليوم تريد ان تحتفي بزوجته الجميلة التي نثرت الغبطة في كل جنبات الدار وزرعت البهجة في روحها وانعشت ما كان ذابلا بمجرد ان وطأت قدماها ذلك البيت القديم المهمل… ستحتفي بها بطريقتها… ستصنع لها خبزة التنور…. نعم لن تفطر اليوم الا بخبزة التنور الساخنة من صنع يديها….. وخرجت الى الحديقة حيث كان يربض تنورها العتيق… لم يكن في حالة جيدة… فمنذ ان كبرت وبدأت تهاجمها متاعب العمر ووهنه منعها احمد وحذرها من استعماله ووضع عليه غطاء معدنيا وفوق الغطاء صخرة كبيرة لحمايته من تقلبات الطبيعة وانفعالاتها الى ان يأت احد يستطيع استعماله او يأخذه ويريحهم منه…. نادت بعض الصبية من الشارع وطلبت منهم ازالة تلك الصخرة…… احتوته يديها بحنو وكأنها تصافحه… ونظرت داخله بلهفة وحب…. شعرت بالحياة تدب في اوصالها وان عهدا جديدا لها ولذلك التنور على وشك البزوغ… وضعت فيه ذلك الحطب القديم المتناثر في ارجاء الحديقة المهجورة …. وبعد ان هدأت جذوة النار طرحت ذلك العجين الذي جهزته على جدران التنور الداخلية المهترئة المليئة بالحفر الصغيرة ووجهها يتصبب عرقا وارتعاش كفيها المعروقتين بشدة ينبهها الى صعوبة تلك المهمة بالنسبة لها….وبالكاد استطاعت ان تكمل مهمتها وصدرها يعلو ويهبط بسرعة وكأنها كانت في سباق للعدو…زمت شفتيها وتحسرت على تلك الايام…عندما كانت كل يوم تصنع لها ولجيرانها الخبز دون ان تشعر بشئ…

وضعت عليه الغطاء ودخلت للبيت في انتظار نضج الخبز…. وجدت احمد قد نزل من شقته يبحث عنها…. ودهش عندما رآها اتت من خارج البيت…. وقال معترضا…. لم خرجت من فراشك يا امي؟…. الجو بارد…. نظرت له وعلى وجهها الشاحب ابتسامة عريضة….. كنت اصنع خبزة التنور…..من فرحتي قلت لن يفطروا اليوم الا بها.

على مائدة الافطار فوجئت بعروس ابنها لم تمد يدها الى ذلك الخبز الذي جهزته لها… كانت منشغلة بجوالها ولا تحفل بما حولها….. وانتبهت لأحمد وهو يقول لها بصوت منخفض على الاقل خذي منها قطعة صغيرة جبرا لخاطرها فهي صنعتها من اجلك…. نظرت اليها وهي ترفض تذوق خبزها الدافئ بإصرار…. ورجعت بها حلقة الزمن سنين الى الوراء…. يوم كان خبزها ينتظره الشارع كله ويمطرونها بسيل من الشكر والمدح الجميل ويوصونها الا تنسى حصتهم المرة القادمة… وقالت لابنها بصوت منخفض ينضح بمرارة حاولت يائسة الا تبديها على وجهها المتغضن ….فبدت كل طية من طياته تحكي وجعا وتسيل الما …. دعها براحتها يا بني…. يبدو ان زماننا ولى بكل ما فيه…صباح اليوم التالي خرجت ونادت مجموعة من صبية الحي وطلبت منهم والاسى والحنين للماضي البعيد يطل من عينيها ان يرجعوا تلك الصخرة فوق التنور

2020.3.11

مقالات ذات علاقة

قوائم المفقودين

عبدالعزيز الزني

الـمـلـكـة

هدى القرقني

قصصٌ قصيرةٌ جدًّا ..

المشرف العام

اترك تعليق