كثيراً ما يتم التأريخ لبداية الأغنية الليبية بسنة افتتاح الإذاعة الليبية في عام م1957ولكن الحقيقة أن الأغنية الليبية كما ذكر الدكتور عبد الله السباعي في مقال له “كانت بدايتها الأولى في ثلاثينيات القرن العشرين عندما أنشأ مكتب الفنون والصنائع للتمثيل والموسيقى تخت موسيقى ضم مجموعة من الفنانين هم عثمان نجمي ومحمد حسن بى عازفو قانون ،كامل القاص ومصطفى الفلاح عازفي قانون ومطربين وأيضاً عندما افتتحت الادارة العسكرية الإيطالية، إذاعتها في منتصف الثلاثينيات و كذلك بعد أن افتتحت الإدارة العسكرية البريطانية إذاعتها ،للعازفين والمطربين الليبيين وأذيعت من خلالها أغاني المطرب على الشعالية الذى عمل على تكوين فرقة انظم إليها في فترة الأربعينيات مجموعة من الموسيقيين والمطربين منهم عبد السيد الصابرى وعلى قدورة والسيد بومدين ومصطفى المستيرى.
ولكن بداية انتشار وتوسع الأغنية الليبية رسميا حدثت مع بث الإذاعة المسموعة في عام 1957م حين تشكلت الفرقة الموسيقية الليبية في طرابلس على يد الفنان كاظم نديم، وفى بنغازي على يد الفنان على الشعالية والفنان السيد بو مدين، وسليمان بن زبلح والفنان سالم زايد وغيرهم من والملحنين والعازفين ورغم التحفظ المجتمعي على الغناء، إلا أن الرواد من المطربين الليبيين بزغوا بأغانيهم الجميلة رفقة ملحنين وشعراء الشعر الغنائي الرواد ولكن لم يكن ثمة أصوات نسائية مرافقة لهذه الفترة من البزوغ الفني.
ونتيجة لانعدام وجود أصوات غنائية نسائية ليبية فلقد استعان مسئولي الاذاعة والموسيقيين والملحنين الليبيين منذ افتتاح الإذاعة وطيلة عقد الستينيات بأصوات نسائية عربية للغناء باللهجة الليبية، ولقد احصيت على موقع اليوتيوب قرابة ثلاثين أسم لمطربات عربيات قامن بالغناء باللهجة الليبية لشعراء غنائيين وملحنين ليبيين أغلبهن من لبنان ومصر وتونس والجزائر وأشهرهن من تونس عليا ونعمة وسلاف وزهيرة يونس ومن لبنان نازك وليلى مطر وصباح خورى ونجاح سلام ومن مصر أحلام وصفاء لطفي وعفاف محرم وسناء البارودي ومها صبري وفائزة احمد وغيرهن.
خلال عقود الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كان الرجل الذي يتجه للموسيقى والغناء يواجه بالرفض المجتمعي ولذلك اتجه الكثير من المطربين الليبيين في تلك الحقبة إلى الغناء بأسماء مستعارة مثل سلام قدري وإبراهيم فهمي بالتالي كان من الطبيعي ألا تدخل المرأة الليبية لمجال الغناء إلا بصورة نادرة ومحدودة جدا.
في فترة الخمسينيات والستينيات، كان هناك ندرة بل انعدام للمطربات الليبيات نتيجة للعادات والتقاليد التي ترى في اتجاه المرأة للغناء، نوع من المحرمات وتعبير عن عدم تقيدها بتقاليد وعادات المجتمع ،وكان الغناء مقتصرا على المغنيات الشعبيات اللواتي يغنين في الأفراح الشعبية ،وكانت رائدة الغناء الشعبي المغنية بطة اليهودية في بنغازي ثم ظهرت المغنية الشعبية “خديجة الفونشة “في بنغازي و المغنية الشعبية “نجمة الطرابلسية” في طرابلس ، ولكننا في هذا المقال لا نرصد تاريخ المغنيات الشعبيات اللواتي قامن بالغناء على نطاق الأفراح العائلية وانما نحاول تتبع تاريخ ومسيرة المطربات الليبيات اللواتي قامن بتسجيل اغانيهن بالإذاعة والتلفزيون الليبي.
ولقد كان أول تسجيل إذاعي لمطربة ليبية هو للفنانة خيرية المبروك التي حرص الفنان على الشعالية على دعمها فنيا وذلك في عام 1963م حين سجل لها أغنية “فى شان الغالى “التي تعتبر أول أغنية مسجلة في الإذاعة الليبية لمطربة ليبية وسجلت أيضا بعض الأغاني الأخرى منها أغنية ” مجروح لكن ما قدرت نقوله”، وأغنية ” خوذ النصيحة ” ولكن المطربة خيرية المبروك توقفت ولم تستمر في مجال الغناء.
وفى الستينيات قام الفنان على الشعالية بتقديم فرقة ليبية أطلق عليها اسم ” فرقة الثلاثي الليبي ” تكونت من ثلاث فتيات من بنغازي قامن بغناء مجموعة من الاغنيات منها “ذوق الشوق” و “نلقنك شهاوي للمليوع يابو خد ضاوي” ولكن الفرقة توقفت ولم تستمر أيضا.
وفى السبعينيات برزت المطربة عبير التي غنت مجموعة من الأغاني الرائعة بصوتها القوى الجميل منها “انت نسيتني ” واغنية “حكايتنا ياقلبى غريبة” واغنية ” جميل اديره فيا” وغيرها من الأغاني التي قام بكتابتها أروع الشعراء الغنائيين و لحنها ملحنين كبار مثل الفنان محمد حسن.
وكان من بين المقتحمات لمجال الغناء بجسارة وشجاعة ، في أواسط السبعينيات أبنة مدينة البيضاء المطربة الليبية الرقيقة ذات الصوت الدافئ تونس مفتاح ،وكان بزوغها مبكرا من خلال المهرجانات الموسيقية المدرسية التي أقيمت في تلك الفترة حيث كانت تشارك المدارس والمعاهد على مستوى المدن الليبية بمسابقة مهرجان الاغنية في مدينة طرابلس كل عام ثم انطلقت شهرتها عبر شريط “رحلة نغم” الذى صدر في عام 1977 الذى كان تحت إشراف وتلحين محمد حسن واشترك فيه مجموعة من المطربين الليبيين و كانت كل أغانيه من كلمات الشاعر فضل المبروك، وبعد ذلك تكون ثلاثي فنى بديع بين تونس مفتاح مع فضل المبروك والملحن فرحات فضل وقدموا أغنيات لقيت نجاح منقطع النظير مثل “سريبى انا وياك سريب” وانسيتك يالبعيد” ” عارف ليش” وغيرها من الأغاني الناجحة والتي لاقت رواج شعبي كبير واستمرت المطربة تونس مفتاح في الغناء منذ عام 1976 الى أواخر الثمانينات تقريبا .
في عقد السبعينيات أيضا برز صوت نسائي جميل وملفت للطالبة خيرية الغرياني في إحدى المهرجانات المدرسية التي كانت تقام في فترة السبعينيات لتقديم المواهب الغنائية ولقد غنت الموهوبة خيرية الغرياني مجموعة من الأغنيات التي لازالت تذاع حتى اليوم في القنوات الإذاعية وهى “نصبرو ياعينى” ،و”قمر له ليالٍى” ولكن الطالبة الموهوبة خيرية الغرياني ذات الصوت القوى والجميل لم تستطيع ولوج مجال الغناء رغم النجاح المذهل لأغانيها وقوة صوتها وجمال إحساسها في الغناء نتيجة رفض عائلتها دخولها المجال الفني وخسرت ليبيا صوتا نسائيا كان يمكن ان يكون له تاريخ وبصمة في تاريخ الغناء الليبي.
وفى أواخر السبعينيات برز صوت نسائي جميل لمطربة ليبية أسمها نجية شعبان قدمت مجموعة من الأغاني من بينها أغنية جميلة عنوانها ” الأيام خلتني زهيت في عينك ” ولكنها للأسف توقفت هي أيضا مبكرا جدا.
وشهدت بداية الثمانينات ظهور صوتان نسائيان، كان لهما بصمة في تاريخ الغناء وهما فاطمة احمد وسالمين الزورق اللتان تخرجتا من معهد على الشعالية للموسيقى وقدمتا أجمل الأغنيات من كلمات فرج المذبل والحان ابراهيم أشرف وإبراهيم فهمي وغيرهم من الشعراء والملحنين الليبيين وأيضا برزت مطربة من بنغازي اسمها عيادة تعرف عليها الجمهور من خلال أغنيتها ” زعم لنا فى الزين نصيب” ولكنها كما يبدو كانت أغنيتها اليتيمة وبعدها اختفت تماما من الساحة الفنية.
ورغم ان حقبة الثمانينات تفردت وتسيدت فيها الأصوات النسائية الأربعة فقط وهن على التوالي المطربة عبير وأبنة مدينة البيضاء المطربة تونس مفتاح والمطربة سالمين الزورق وفاطمة احمد ، إلا أنها كانت حقبة ثرية بأجمل أغانيهن حيث تبارى الشعراء والملحنين في تقديم أجمل الكلمات والألحان لهن، وكان لكل واحدة منهن أسلوب خاص ولون مختلف وروح مختلفة عن الأخرى وكان لأغانيهن رواج كبير عند الجمهور.
وباعتزال المطربات عبير وتونس مفتاح وفاطمة احمد في نهاية الثمانينات لم يصمد ويستمر من الأصوات النسائية إلا سالمين الزورق والمطربة نجوى محمد التي بدأت مشوارها الغنائي بأغنية “تذكرتهم “ولازالت المطربة نجوى محمد مستمرة في الساحة الغنائية مع المطربة سالمين الزروق حتى اليوم رغم ندرة نتاجهما في السنوات الأخيرة.
في أواسط التسعينيات برز صوت المطربة مريم السعفى وهي مطربة من بنغازي تخرجت من معهد على الشعالية للموسيقى، وقدمت مجموعة من الأغاني المميزة بصوتها الذهبي الساحر ولكنها توقفت عن الغناء وهي في أوج نجاحها.
وكذلك ظهرت مطربات شابات من مدينة طرابلس مثل أميرة ورغد ومطربة اسمها نادية محمد غنت اغنيتها الشهيرة ” اناغزالى بعيون سماح” ومطربة شابة أثارت ضجة بأغنيتها المتمردة ” مش كيف ماتبى ” ولكنهن للأسف جميعهن توقفن عن الغناء ولم يواصلن الطريق واقتصر وجودهن على بضعة أغنيات قليلة فقط ولم يتركن منجز غنائي مثل مطربات جيل الثمانينات.
علينا أن نذكر بأنه في بداية التسعينيات تغير نمط الاغنية الليبية التي كانت تمتاز بالروح الليبية الحداثية وبهويتها الخاصة عبر شعراء وملحنين عملوا على تطويرها منذ خمسينيات القرن العشرين ،وذلك بعد دخول الشاعرين على الكيلاني وعبد الله منصور لساحة الأغنية الليبية، واحتكارهما لأغلب الأعمال الغنائية الليبية وحصرها بطابعهما ولونهما الشعرى الخاص، من خلال برامج النجع والجلسة وغيرها واحتكرت المطربة التونسية ذكرى محمد غناء هذا اللون الفني وتم أيضاً الاستعانة بمطربات عربيات لغناء نفس اللون دون الاهتمام بالألوان الغنائية الأخرى المختلفة.
وفي كل الأحول كان وجود المطربات الليبيات وخصوصا في حقبة الثمانينات قويا ومؤثرا رغم أنه اقتصر على بضعة أصوات، ولكنها كانت أصوات كبيرة في عطاؤها الفني وحملت على عاتقها نشر اللون الفني الليبي بهويته الخاصة به وبألحانه الموسيقية المميزة رفقة أكبر الشعراء والملحنين الليبيين المميزين والعباقرة.
ويعتبر عطاؤهن هو الأطول عمرا مقارنة بكل الأصوات التي دخلت للساحة الغنائية الليبية على مدار التاريخ الغنائي النسائي الليبي، لهذا لايزال النتاج الغنائي للمطربات تونس مفتاح وفاطمة أحمد وسالمين الزروق خالدا ويجد رواج ومتابعة بمرور السنوات وإلى نهار اليوم.