بوابة الوسط – حوار: عبد السلام الفقهي
ولد أول طابع بريدي في العالم ببريطانيا 1840، ومن هذا التاريخ بدأ الرحالة الصغير يجوب أطراف المستديرة حاملا معه حكايات الدنيا وتراثها، ليعكس رموز حواضر الدول والشعوب والمجتمعات، مستحقا لقب «المخبر الصامت» بوصفه الساكن للحياة البشرية عبر مظاهرها الثقافية المتعددة.
هذه المسيرة الحافلة تمنحنا فضول السؤال لمعرفة تاريخ الطابع البريدي في ليبيا والأحداث التي شكلت منعطفا في رحلته، وأسماء المواهب المرتبطة به، والإجابة كانت في حوارنا مع أحد أهم رواده، الفنان العالمي محمد سيالة.
– ما الذي جعلك تتجه إلى الرسم البريدي؟
> أثناء وجودي في إيطاليا للدراسة بكلية الفنون بفينيسيا حاولت تقليد أو نسخ رسوم الطوابع البريدية كلما سنحت لي فرصة الاطلاع على عمل فني، ثم تطورت الموهبة واحترفت المجال، خصوصًا بعد تعرفي إلى الفنان الإيطالي جورجيو فانديلو الذي تأثرت بتجربته، فانديلو أحب ليبيا حتى إنه قبيل وفاته أوصى بأن تؤول محتويات مكتبته إلي، وبذل مجهودا في التعريف بالطابع الليبي وألف أربعة كتب بالخصوص، فيستحق منا في المقابل إصدار طابع يخلد ذكراه عرفانا بجميله. درست الرسم واتجهت إلى الواقعي، فهو الأصدق في نظري دون بقية الألوان الأخرى في التعريف بكل مفردات المضامين التاريخية والفنية والتراثية للبلد.
– كيف نفهم توازن الوظيفة والهواية في أعمالك؟
> لم تكن المسألة في الاتجاه إلى عمل وظيفي يتبنى الرسم من عدمه، فالأمر متعلق بالموهبة والميول وخيارات الهواية، فالشغف وحده قادني إلى هذا الفضاء، واستطعت فهم الصيغة العامة لأصول وطبيعة السياق الفني المطلوب دون المساس بجوهر الموضوعات المطروحة.
– هل يمكنك الإشارة إلى تاريخ محدد يحمل بصمة أول إصدار لك؟
> حدثت الأمور تدريجيا، منذ عملي بالبريد بداية ستينات القرن الماضي، عندما كان الأستاذ فؤاد الكعبازي آنذاك وزيرا للمواصلات وكنت بحكم وظيفتي أقتنص الفرصة أحيانا لوضع أفكاري الخاصة على الطوابع، والذي غالبا ما أثار غضب الكعبازي، فيسألني منزعجا من طلب منك ذلك؟ تلك المغامرات البسيطة هي امتداد لسلسلة البروفات التي كونت النضوج الفني حتى توجت في تاريخ الأول من سبتمبر 1969 بصدور أول أعمالي الرسمية تحت عنوان «جيشنا ذراعنا الواقي».
– كم عمر الطوابع البريدية في ليبيا؟
> صدر أول طابع بريدي في ليبيا العام 1870 في العهد العثماني، ثم صدور طابع حمل اسم ليبيا العام 1912، يتبع ذلك فترة الأربعينات برسوماتها وإيقاعها المعبر عن تلك المرحلة زمن الانتداب الإنجليزي والفرنسي، ولا تفوتني الإشارة إلى أن مجموعة الطوابع البريدية «فزان الأولى» الصادرة آنذاك التي لا تتعدى 12 طابعا لا تقل قيمتها اليوم عن مليون دولار، وللأسف هذه الطوابع لا نمتلك حتى نسخة منها، نحن بلد بلا ذاكرة.
وظهرت إلى جانب ما ذكرت مجموعة طوابع حملت اسم «فارس» 1940، المرتبطة بقصة أحد فرسان الجيش السنوسي عند مروره أمام الحاكم الإنجليزي الذي أعجب بزيه أثناء مروره أمامه فالتقط له صورة وأصدرت كطابع، هذه المجموعة أعيد اعتمادها بتوقيع جديد بتاريخ 24 ديسمبر1951، وكان لي شرف الالتقاء بهذا الفارس في فترة لاحقة ليسجل لي توقيعه الخاص على طابعه، ثم صدرت مجموعة أخرى العام 1952 تحمل صور الملك وكانت المرة الأولى والأخيرة قبل إصداره قرارا بمنع ظهور صوره بريديا.
– وفق أي قواعد فنية تتجدد رسومات الطوابع؟
> نحن نتحدث عن أفكار تنتجها سياسة البريد، الذي يرتبط باتحاد عالمي وعربي وأفريقي، قد يرون اقتراح بعض الأفكار أحيانا عدا الطلبات الخاصة بوزارة البلد أو المؤسسة البريدية ذاتها، في تخصيص فترة زمنية معينة لإصدار طوابع عن العلماء مثلا.
– كيف تبدو العلاقة داخل المؤسسة البريدية بين الموظف والفنان؟
> يمكنني تسجيل ملاحظة وهي أن البريديين لا يروق لهم ما يصنعه الهواة بلمساتهم الجمالية، على الرغم من وجودنا في مؤسسة واحدة، لأن الهاوي يحاول إسباغ بصمته الخاصة فهو يخاطب شريحته المعنية بتلقف الإصدارات في حين لا يروق ذلك للبريديين، والمقصود هنا الموظفون فهم يعتبرون تلك الإضافة ترفا أو اجتهادا غير مطلوب، ربما أصف ذلك بالصراع بين عقلية الموظف والمبدع، فمثلا رسمت طابعا للقذافي مرتديا الزي الليبي «الجرد» وهو يمتطي جوادا، المغزى ليس في شخصية القذافي فقط فالهاوي وهو السائح الأجنبي يريد رؤية الزي الليبي والحصان، وهنا تتقاطع جملة خطوط سياسية وتراثية وفنية، وإذا ما احتد النقاش حول إضافة ما، لن يقتنع موظف البريد إلا إذا رأى نموذجا دوليا مماثلا، وهنا تبرز مسألة الاستهانة بالرؤية الإبداعية المحلية، مع أنني ابتكرت عدة أشياء في الطوابع البريدية كرسمة الـ16 وهو وجود ست عشرة لوحة في مربع واحد، يتم تقسيمها لتنفصل كل منها في شكل مستقل، الآن هذه الفكرة رائجة عالميا وهي من تصميم ليبي.
– هل وجهت لكم في العهد الملكي ملاحظات لتبني أفكار معينة؟
> على العكس تماما، حتى إن الملك كما ذكرت أوصى بعدم رسم صورته.
– ما الذي يميز عهدي الملك والقذافي فيما يخص الطوابع؟
> الاختلاف في المناسبات القومية، كعيد الاستقلال مثلا، ثم إن الإصدار متعلق بلجنة طوابع دائمة تضم خبراء من السياحة والآثار والمالية ومدير عام البريد، نجتمع ونتفق على إصدار سلسلة من الطوابع وهكذا.
– هل قدمت إليك عروض خارجية؟
> شاركت في تصميم طوابع لدول أخرى تحمل تواقيع اسمي مثل تونس ودول منظمة الأوبك، والغريب والمضحك أن اسمي يظهر على طوابع تلك الدول، بينما يمنع في ليبيا وتحديدا في عهد القذافي.
– ما السبب في رأيك؟
> ربما لأن القذافي لا يريد نجوما.
– هل تعرضت لضغوطات في عهده؟
> يأتي رجال المخابرات إلى البريد محملين بتعليمات على وجوب وجود لون محدد أو التركيز على إيحاء ما، وحتى بعد إصدار الطابع تحدث معهم بعض المناقشات لإقناعهم بجوهر الفكرة التي بني عليها العمل، لدرجة أنه بعد انتهائي من أي رسم لا أستطيع النوم مرتاحا لشهر كامل خشية التأويل السياسي، إضافة لثلة مئولي الأفكار، أو ما يعرف بلهجتنا الدارجة «الزمزاكة» الذين عانيت منهم الكثير.
– ما الذي يميز الرسم البريدي عن غيره؟
> درجة إتقان الفكرة فنيا وموضوعيا، عندما نتحدث عن مناسبة 11 فبراير يكون السؤال كيف نظهر الرسم الخاص بها، وهو سؤال يتكرر معنا سنويا.
– ما الفرق بين الموضوع المحلي والعالمي في الطابع؟
> هواة الطوابع يستهويهم وتجذبهم الموضوعات العالمية، لذلك يسعون للحصول على أكبر عدد للأرشفة، في حين لا تلفت انتباههم الفكرة المحلية، خصوصا في المناسبات السياسية باعتبار رمزيتها محدودة المكان.
– هل ما زال الطابع البريدي محافظا على حضوره حاليا؟
> الطوابع البريدية هواية وذوق واستثمار، فمثلا طوابع المملكة تساوي مبالغ كبيرة، والحصول عليها أصعب، فمجموعة الملك وحدها تصل إلى الألف دولار، فقيمته تتناسب طرديا مع الزمن، صحيح أن الطابع البريدي في وجود وسائل الاتصال الحديثة يبدو لا لزوم له، غير أنه مرتبط بتقليده وهواته وتاريخه، فوضع شاعر ليبي أو كاتب أو فنان أو سياسي على رسم بريدي إحياء وتكريم واحتفاء بمنجزه.
– هل تقوم بنسخ الصورة حرفيا؟
> تعلمت من أساتذتي أثناء دراستي الرسم أن الصور دائما مغلوطة، بمعنى لا يجب أن توافق المصور على كل مكونات لوحته، فمثلا صورة امرأة ليبية بالزي التقليدي وهي تجلس على كرسي بالصحراء يمكنك قبول كل المفردات عدا الكرسي، فالوضعية هنا غير منطقية لاعتبارات المكان والبيئة، العين النقدية ضرورة للمسة الفنية.
– خارج إطار الوظيفة ما ميولك الخاصة في الرسم؟
> أجد متعة في رسم وجوه كبار السن، فتبيان التجاعيد يعكس روح الواقعية التي أشرت إليها في البداية، ولأنني مفتون بهذا الفن فلوحاتي حتى الخاصة منها تقترب كثيرا من قالب الطابع.
– كم عدد الميداليات التي تحصلت عليها؟
> تحصلت على 24 ميداليا ذهبية وأربع ميداليات كبرى كان آخرها في باريس العام 2004 عن مجموع أعمال قمت بانتقائها والمشاركة بها، وفزت بجائزة الميدالية الكبرى.
– هل ترغب في الإشارة إلى ملاحظة ما؟
> أتمنى أن يتأسس متحف للطوابع البريدية في ليبيا يلملم شتات ذاكرتنا المبعثرة، ويحفظ لنا جزءًا من تاريخنا المنسي، فبلد دون متاحف كبلد بلا مدارس.
بوابة الوسط | الجمعة 10 يناير 2020