يحفر فن الكاريكاتير عميقا في قضايا المجتمع وتشابكاتها، ويجهد رساموه في تعرية الواقع ونقده بالسخرية عبر نماذج تحاكي اليومي في طقوسه وأحواله العامة والخاصة، وتبقى لكل فنان بصمته وتوقيعه المميز وأسلوبه المغاير، وكذا مساره الذي قاده إلى هذا الفضاء، وساهم في تشكيل ذائقته الكاريكاتيرية…
الفنان الليبي الراحل محمد الزواوي أحد الذين نحتوا أسماءهم على جدار هذا الفن، وقدموا رؤيتهم ووجهات نظرهم فيما يخص هموم المجتمع الليبي والعربي، لذا كان هذا الحوار[*] وثيقة ترص بعض من ملامح معركته مع الحياة والناس.
> كيف جاءت إرهاصات البداية؟
● مذ كان عمري عشر سنوات، بمجرد احساسي لما يحدث من حولي، تملكني شعور بإمكانية التعبير عنه فنيا بالرسم، من خلال رؤيتي للمحيط كموقد النار، وجلوسي في رواق البيت «خيمة».. إلخ بحكم نشأتي البدوية. كانت رسوماتي تنقل ما يقع عليه بصري، وهي في تكوينها الجنيني تعد «ساذجة» لكنها اولا واخيرا تمثل شرارة البداية.
> هل تحصلت على مساندة أو داعم لهذه الموهبة؟
● إطلاقا، لم يشجعني أحد، خاصة من الأسرة والأقارب، بل على العكس تماما حاولوا مرارا دفن تلك الموهبة، بحكم العرف الاجتماعي القائم آنذاك، نحن أسرة تقطن البادية ومحافظون لدرجة أن فكرة الرسم لم تكن لتلقى قبولا أو حتى مجرد استساغة، فهم يعتبرونها نوعا من «اللهو الشيطاني».
> ذلك يبدو بمثابة تعدٍ على ثابو مجتمعي؟
● نعم، البيئة البدوية هي أن تكون مزارعا أو مربي مواشي، لا تربطنا صلة قوية بالكتاب والصور ولا بالرسم، ويصعب الامر كذلك في إيجاد وقت للعب، علماء النفس يقولون إن الطفل الذي لا يلعب يصاب بعقدة نفسية، وأنا انفي ذلك من واقع تجربتي الشخصية، لم أجد فرصة للعب، ولم أصب بهذا المرض «ههههه»، هل تصدق لوقلت لك إن الدائرة ضاقت عليّ عندما وصل الأمر بأهلي لوضع «حجاب» بغية طمس موهبة الرسم عندي.
> يسوقنا الفضول لمعرفة منابت الطفولة؟
● طفولتي كانت في نجع أو ما يشبه ذلك مكون من قرابة العشر بيوت على أحد أطراف وادي القطارة، طوبوغرافية الأرض هناك في تكوينها الجيري الهمني بالرسم عليها، وعلى مسافة تبعد كيلومتران من النجع ارعى الأبقار بالقرب من تلك المسطحات البيضاء، أجمع أنواعا من الزهور وأقوم بدعكها على الصخور، ولك أن تتخيل جمالية نتائج المزج ومفارقة الألوان برغم عفوية المنظر، ستنتهي طبعا اللوحة بسقوط أول قطرة من سحابة عابرة، وسأتذكر في النهاية مع اقتراب غياب قرص الشمس وعدم قدرتي على تمييز الألوان، إني مكلف برعاية أبقار تذهب في الغالب إلى النجع بمفردها، بحكم تعودها على الطريق والمكان والنهاية محفوفة بالتوبيخ والضرب أحيانا.
> وصولك إلى الكاريكاتير مر بظروف قاسية؟
● ذهبت إلى بنغازي لإتمام دراستي قادما من مدرسة الابيار الابتدائية التي دخلت إليها سنة 1951 وتخرجت فيها بمؤهل رابع ابتدائي بعد ست سنوات كان الرسوب هو حليفي الأول في جميع المواد ماعدا مادة الرسم، لم تمضِ ستة أشهر حتى توفي والدي، كنت مجبرا عندها على ترك المدرسة والبحث عن عمل، في تلك الفترة وتحديدا سنة 1958 كانت العلاقات الليبية الأمريكية جيدة وترجمت هذه العلاقات في هيئة مشاريع مشتركة عبر النقطة الرابعة التي تتضمن وسائلها بث إعلانات إرشادية تحمل توجيها توعويا في المدن والقرى، ولحاجتهم إلى رسام ينجز تلك الملصقات تقدمت مع مجموعة من الباحثين عن العمل للحصول على تلك الوظيفة وحالفني الحظ في ذلك، واستمر وجودي بالشركة إلى أن حلت سنة 1962، انضممت بعدها إلى وزارة الأنباء والإرشاد، ثم انتدبت للعمل بمجلة الإذاعة النصف الشهرية، وانتقلت بعدها إلى أكثر من محطة، أذكر أنني كلفت بالرسم الواقعي كلوحات للشقق والأغلفة والطوابع، ووجدت بعضا من زملائي قد سبقوني للمجيئ إلى طرابلس منهم الفنان عبد الحميد الجليدي ومحمد شرف الدين وصالح بن دردر.
> ماهي الرؤيا التي قادتك للرسم الساخر؟
● كانت رسوماتي واقعية فترة الستينات، ثم جاء تحولي تدريجيا إلى الرسم الساخر عبر سلسلة من الأفكار والتصورات التي أرى من خلالها أن قدرتي في هذا الاتجاه تصلني بنقد السلوك المجتمعي والسياسي والاقتصادي إلخ، خصوصا ومجتمعاتنا تئن تحت ظروف قاسية، وكذا استفادتي من المجلات العربية والأجنبية العارضة لهذا اللون من الفن، تتبعت عبر خيوط الحبر الأولية الطريق لتحديد المسارب والاتجاهات داخل عالم الكاريكاتير، كما خزنت في ذاكرتي جانبا من القضايا والعيوب والأخطاء حتى اتمكن من إيجاد الأسلوب المناسب لتناولها، تزامنت تلك الفترة مع وجودي ببنغازي، ووجودي بالمدينة أتاح لي الاطلاع على الدوريات والصحف لاكتشاف السبيل إلى المعالجة الفنية التي أقصدها، وعثرت عليها أخيرا في بعض الصحف المصرية بعد وقوفي على رسوماتها الساخرة وكيفية تناولها للقضايا.
> بمن تأثرت؟
● بفنان يوناني أرميني المولد ومصري الجنسية اسمه بيرني، تشدني أعماله وأسلوبه في معالجة القضايا وطرح الأفكار، إضافة، كما ذكرت إعجابي بما ينشر من رسومات ببعض الصحف الأجنبية والعربية.
> ما مصادر الإلهام لديك؟
● منجم الفن الساخر هو الأخطاء والمواقف السلبية المطلوب تقييمها والالتفات اليها، أنا أبحث عن الأخطاء وما أكثر ها في مجتمعاتنا العربية.
> هل ترسم لمرة واحدة أثناء تحضيرك للوحة، وكم يستغرق الزمن؟
● قبل الرسم لا بد للفكرة أن تتجمع خيوطها وتختمر في ذهني، وحال الإمساك بالخيوط ابتعد عن أي مصدر للإزعاج حتى تكتمل اللوحة في مخيلتي بكل أبعادها، تأتي مرحلة لاحقة، وهي الترجمة العملية للفكرة، ولا يتعارض ذلك مع الاستماع للموسيقى او التحدث مع صديق أو مشاهدة التلفاز بل أجد ذلك ضروريا لأخلق نوعا من الانسجام بيني وبين اللوحة، لكن ذلك لا يسير وفق ما أرغب دائما، إذ يحدث أن يطلب منك عملا يقتضي التنازل عن كل ما ذكرت، خصوصا إذا كان هذا الالتزام مرتبطا بالصحافة مثلا مما يضطرني إلى الانكباب على اللوحة حتى ساعات متأخرة من الليل، وبمجرد رؤيتي لها صباحا أجدها غير صالحة للعرض مع انها تمتلك مقومات الصورة المتكاملة، والسبب هو أنني أتعامل مع المتلقي تماما كما لو أن اللوحة أرسمها لنفسي.
> تناولت المرأة بشكل سلبي في أعمالك؟
● أناقش مشكلة المرأة تماما كما أناقش مشكلة الرجل باعتبارهم شركاء في بناء المجتمع، ونقدي للمرأة هو كشف أو تعرية ساخرة مواقف حياتية نعايشها يوميا وقمت بتوظيفها كاريكاتيريا لبث رسائل تشخص أبعاد تلك السلوكيات، تلك الومضات تضع دوائر أو نقاط استفهام تستجلي واقعنا الأسري دون ماكياج منها مثلا عدم إدراك الزوجة للأولويات بين المهم والأهم، أو صورة أخرى أثناء استلامها راتب الزوج الذي يحاول فك حبال التزاماته الموجعة، وهي تصر على أخذ الجمل بما حمل، وستتحول جرعة السعادة المتواضعة تلك بقدرة قادر إلى كدر ومشاكل إذا ما تلكأت في تنفيذ طلباتها، لكنني أرجع ذلك إلى كونها ضحية مجتمعاتنا المتخلفة، وما أرسمه عن المرأة ينطبق أيضا على الرجل الذي انتقدته في مواقف مشابهة أيضا، معالجتي لم تكن أحادية، والأمر لا يتعلق بسلبي أو إيجابي السؤال كامن في التوصيف الموضوعي وهو الهدف.
> هل تجد التعليق على اللوحة ضروري لاكتمالها أم يتوقف ذلك على وجهة نظر الفنان؟
● أمر جيد بقاء اللوحة دون تعليق، ذلك أن تفسيرها سيبقى ملكا للجميع، لكنني أميل إلى المدرسة المصرية التي تتبنى التعليق حتى إنك تجد التعليق ذاته يضحك أكثر من الرسم ذاته.
> أطرف ردود الأفعال التي واجهتك؟
● دخل أحد الزائرين لمعرض أقمته عاقد الحاجبين متجهم الوجه، ينظر إلى اللوحات باهتمام عجيب، يلتفت يمينا ويسارا باحثا عن صاحب الأعمال وهو «أنا» أشار أحدهم بسبابته نحوي، وتوقعت أن في الأمر طامة كبرى، تقدم نحوي وتكشيرة عريضة تتربع على وجهه، وقف أمامي قائلا: أنت الرسام؟ أجبت بتردد نعم، وإذا به فجأة يسلم عليا بحرارة ضاغطا على كلتا يدي، قائلا: «أحسنت أحسنت يا أستاذ» عندها تنفست الصعداء، وسألته عن سبب تجهمه ما دامت أعمالي لاقت قبولا لديه، أجابني بأنه لا يعرف السبب وما هو متأكد منه أنه سعيد ومنسجم، لذا أخلص من واقع تجربتي بالمعارض أن الليبيين لا يضحون، أولا يجيدون التعبير عن مشاعرهم جسديا ربما انعكاسا لسلوكهم المحافظ، لذا تناولت ذلك في احدى لوحاتي سنة 1975، مضمونها أن مواطنا ليبيًا يدخل على طبيب نفسي يشكوه مرضا، يقول للطبيب إنه متزوج من ابنة عمه، ولديه بيت وسيارة ويملك رصيدا في البنك، إلا أن لديه مشكلة وهي عدم الضحك وعجز عن إيجاد حل ينقده، فعلا لماذا لا يضحك الليبيون؟ الغريب أنهم يتذوقون الأعمال الفنية في مجملها إلا أنك لا تراه يضحك أبدا، ربما كانت مسألة الكبرياء وعدم إظهار العواطف لكائن من كان سببا آخر، صدقني لو قلت لك إن والدي لم أرَ له أسنانا قط من ندرة ما يضحك، أتمنى أن يرسلوا بين الحين والآخر مجموعة من الليبيين إلى مصر لمدة شهرين أو ثلاثة لأخذ دورات في الضحك.
بوابة الوسط | الإثنين 07 يونيو 2021
[*] ملخص لحوار أجريته مع الفنان الراحل في العام 2003.