شيماء الغرياني
أحب لغة العلامات، تلك التي تصادفني عند قراءة أي كتاب، علامات تجعلني إما أن اتوقف عنه، أو ان اتابعه، أو ان اماطل في انهائه من فرط اعجابي به، وكان لتوقف نمو نصيب من النوع الأخير، لقد استغرقت في قراءتها مدة لا بأس بها بالرغم من أنها متوسطة الطول، بإمكان القارئ العادي أن ينهيها في ثلاثة ايام كحد اقصى، لأنني عندما اتعلق بالشخصيات ودوران الأحداث، اعتقد ببلاهة أن مماطلتي في انهائها قد يزيد من طولها.
إن فكرة توقف نمو لا تنطوي على احداث غريبة، ولا على طفرة جديدة في عالم الأدب، لكن بها نكهة مختلفة ونادرة، لا اعتقد أنه من السهل على أي كاتب أن يجمع كمَّا كبيرا من الذكريات اللطيفة والمحزنة، ثم يضيف عليها من خياله بعض الاضافات، مع حذف مُتعمد للحبكة، ليظهرها في نهاية الأمر، كأنها صفحات مقتطفة من حياة شخص ما، تتوقف كما كتب لها الرب أن تتوقف.
اجدني قد استمتعت بها، لأنني احيانا اشعر بأني استمتع بهذا النوع من الروايات، التي تكتب وكأنها حكاية عن الواقع، مع بعض الإضافات لإظهار شيء ما، أو مواراة شيء ما، تتحدث توقف نمو عن ثلاث شخصيات رئيسية تدور بينها حياة في 300 صفحة، شاب ومسن، وحصان ابيض بائس. لقد اعجبتني شخصية الشاب، بالرغم من مسحة الهول الذي يظهر فيها طول الرواية، نظرا لمعاناته الشخصية، ذكرياته اليتيمة المؤلمة مع والده، تجربة مفجعة مع اجهزة امن الدولة، الاختلاجات النفسية التي لم ترحمه، رغم ذلك يظهر مدى عيشه بطريقة طبيعية، بلا مبالاة اعجبتني، فتنني قضاءه للكثير من وقته داخل اروقة مكتبة شبه مهجورة، مُغبرة على حد تعبير الكاتب، والوصف الدقيق لأعمال الشاب الفنية، الرسم وتحسين الصور وقصها ولصقها وتكوين صورة واحدة من مئات الصور عن طريق الفوتوشوب، دوحة من الفن الذي يجعلني اعجب بهذه الشخصية اكثر. لا ادري ما إن كان القصد من الشخصية امتداح العيش في الظل بعيدا عن المشاكل، لكن يعجبني اسلوب العيش هكذا، أن يعمل المرء ما يحب، شعرت بالتعاطف اتجاهه عند ذكره لذكرياته مع والده، ولازلت اتذكر ذلك الشعور، لقد قرأت مرة عن التعاطف، لكني لم اشعر به الا الان، إنه شعور مختلف تماما عن الشفقة، لطالما علمت ان الشفقة شعور يقلل من قيمة الشخص الذي امامك، اما التعاطف فهو يجعل من مُصدر الشعور ومتلقيه كائنين في غاية الانسانية، وهذا هو ما لامس قلبي تماما، حقا احببت الشاب بوحدته ومشاعره وانسانيته.
المسن، شخصية بغيضة لم استلطفها، في الواقع لا اعتقد بأني سأجد ليبيًا يفعل ذلك، لقد اوضح الكاتب أن هذه الشخصية عبارة عن بقايا ما يعرف بالجهاز الامني الثوري التابع للنظام السابق، سمه ما شئت، طحالب، طابور خامس، أو لجانا ثورية، مسميات متعددة لثلة قذرة واحدة، اجدني في هذه النقطة لا استطيع ان افصل مشاعري الخاصة عن حكمي على هذه الشخصية، لأزمة عائلية حدثت قبل ثلاثة وعشرون عاما، يوم ان تعرض عمي رحمة الله عليه للتعذيب بتهمة الزندقة لثلاثة عشر يوما، ذكرى مؤلمة تجعلني اكره هذه الأصناف، لكن الرواية تظهره بمظهر يبدو رحيما، لا يليق به، وما يجلب له العزاء هو الطريقة الجميلة التي كتب بها الكاتب عنه، يظهر له بعضا من دموع الندم على ما قدم من جبروت جنوني من اجل ارضاء النظام البائد، ارواح عدة قضت تحت يده من اجل أن يصبح نجما لامعا في عالم العنف، بالرغم من اهتزاز كيان هذه الفئة، أو ما تعرف بالثوريين الأوائل، قبل ثورة فبراير بسنوات قليلة، بسبب الجيل الجديد الصاعد من اللجان الثورية الذين احالوا القدامى من اجل ان يتفكروا في جرائمهم البشعة، ربما هي كرامة من الله لهم، وكرامة من الكاتب أن جعل له رفيقا في اخر ايامه، الشاب الذي اغرم بفنه الجميل، والذي يظن بأنه كان السبب في نجاته من اجهزة الدولة ايام الاعتقال، وحده الله من يُنجي، ربما كان المسن واسطة فقط، لكن لا فضل له في ذلك. ينتهي الأمر بهذا المسن إلى القتل مُغتالا على كورنيش بنغازي الذي ارغب حقا بزيارته، كنهاية طبيعية وواقعية لهذه الأنواع من الناس.
بإمكان أي قارئ ما أن يستشعر الرمزية في الحديث في صفحات عدة عن حصان بائس مُقيد القوائم في ميناء المدينة، رغم وجوده حقيقة، وتأمل الشاب له، وشعوره بأنه مرآة لحياته، تبادل التعاطف والشفقة والبؤس، اشياء تجلب العزاء للإنسان، سمعت مرة أن البؤساء يستطيعون أن يساعدوا البؤساء امثالهم، لأنهم وحدهم من يقدرون ويشعرون بماهية العجز وألمه، بالرغم أن النتيجة ليست دائما محمودة العواقب، وهذا ما فعله الشاب في النهاية، بعد اشهر من تأمل حاله البائس قرر مساعدته من اجل أن يحقق له الحرية، وكأنه يحرر نفسه من حياته، لتنتهي حياة الحصان البائس بطريقة مفجعة للغاية.
بنية القصة متماسكة بالرغم من أن اساسها ذكريات من مختلف المراحل الحياتية، بها اشباح من الماضي المتعلق ببلدة الشاب الجنوبية، زيارته الأولى لبنغازي، اقامته فيها الحديثة نسبيا. لم ازر بنغازي في حياتي، بل ربما فعلت وأنا طفلة لم اتجاوز السنة، امور لا اذكرها، وكفتاة من طرابلس عادية، ليس لي أي شغل هناك، لكني ارغب حقا في زيارتها، اعتقد بأني ارتبط بها منذ ان اندلعت ثورة فبراير من هناك، تذكرت اجواء حماسنا وهتافنا معهم بالسر ونحن نقبع تحت سلطة النظام آن ذاك، ارغب بأن اسير في الشوارع التي سار فيها الشاب، وان اركب الحافلات التي يهدر مذياعها بموسيقى الراي والماروكية، وأن ازور الميناء، وأن اتجول بين ارفف المكتبة الوطنية هناك، اريد ان ازور مكتبة علي الفزاني، إنها واحدة من اغرب الأمور التي قرأت عنها، خال امي -رحمه الله- له نفس الإسم، طبعا ليس هو المقصود، إنه تشابه اسماء فقط، لكني ارغب بزيارتها لهذا السبب. ارغب بزيارة الكورنيش كما عبرت سابقا، وأن ألتقي ببعض معارفي القلائل هناك، وربما اقارب جدتي الذين لم ارهم منذ أكثر من ثمانية عشر عام، اتمنى أن افعل قريبا، كأنها سياحة داخلية.
تنتهي الرواية بمشهد رقيق حميمي داخل اروقة المكتبة المغبرة ، بين مجموعة من كتب العظماء، امور تجلب العزاء للشاب بعد كل تلك المعاناة والأسى والخسارة. أن يكون الحُب هو النهاية، أمر عظيم لا مبتذل، لأنه مهما كانت الحياة قاسية، هناك أمور تجلب العزاء للمرء، الحُب احداها، ولنتمنى صادقين أن تنتهي حياة الجميع بحب عظيم.
هذه هي مرتي الأولى التي أقرأ عملا متكاملا للكاتب شكري الميدي آجي، قراءاتي السابقة له كانت في معظمها قصص قصيرة مبهرة هي الأخرى، وبعض المنشورات على صفحته الشخصية على الفيسبوك، إنه احد خيرات بلادنا، مؤمنة به، الوحيد الذي اعترف به على المستوى الكتابي الشبابي، المميز في الجيل الجديد للكتاب في ليبيا، لست اتمنى له سوى التوفيق الدائم، والعمر المديد، من اجل المزيد من الكتابات، ولتحقيق رغباته الشخصية. من المؤسف عدم توفر مؤلفاته في ليبيا، لكني احمد الله أني حصلت على نسخة من الرواية بطريقة ما.
ثلاث نجمات، لأجل الاسلوب والتأثر والمتعة. بكامل الرضى والحُب.
______________________
مدونة أوراق ديسمبر