النقد

الشاعرُ” محمّد الهريوت”.. جنونُ الكتابةِ.. كتابةُ الجنون !!

 

عِذاب الركابي

” محمَّد الهريوت”.. شاعرٌ قرأتهُ بكلِّ مكوِّناتِ أحلامِِ يقظتي، وتحاورنا عبرَ القصائدِ المكتوبةِ بفتافيتِ الجسدِ، قافيتها الحزنُ، والغربةُ، ولوعة ُ الحُبِّ، ونارُ الاشتياق ِ..

لمْ نلتق ِ أبدًا.. !!، ولكنَّنا كانَ لنا أكثرُ من موعدٍ ربيعيٍّ، رتبتهُ القصائدُ، وأكثرُ من عناقٍ فوقَ سحبِ الإلهام ِ  المثقلةِ بأمطارِ الكلماتِ الذهبيَّةِ، وأكثرُ من حديثٍ زاهٍ بالإسرارِعلى ظهرِ موجةٍ طائشةٍ،..أذكرُ أنَّنا تعانقنا على ورقٍ قاتمٍ، وفي ظلِّ حرفٍ بنفسجيٍّ، لمْ نلتقِ أبدًا ولكنَّنا تصافحنا في أصابعِ الحروفِ، وعبرَ حرارةِ الكلماتِ، مأخوذينَ.. ومسحورينَ بعطرِ الوحي، ونسائمِ الخيالِ، وقدسيَّةِ الكلامِ..لمْ نلتقِ أبدًا، ولكنَّنا مشينا معًا بأقدامِ نهار ٍ فتيٍّ، صادرتْ ذهبَ وقتهِ وقاحةُ ليالينا الحزينة..!!

 

 كتبنا القصيدةَ أوْ كتبتنا المهم أنَّها أرَّخت  لعشقنا.. لميلادنا.. لموتنا.. وللقائنا في اللامكان..!! نعرفُ بعضنا عبرَ كيمياءِ الحدس ِ، وعواصفِ الهواجسِ الشعريَّةِ، وأجزمُ أنَّ ملامحَنا واحدةٌ بلونِ الوطنِ، وابتسامتنا واحدة بطعمِ الطعنةِ،.. ونشبهُ بعضًا كثيرًا وفقَ منظرِ حدائقِ حياتِنا المُبدَّدة، وفي ديمومةِ همومنِا، وثوراتِ أحزانِنَا، ولحظاتِ جنونِنَا الضروريَّةِ.. لنا مملكة فوضى  يحكمها القلبُ، وترسمُ آفاقها الدموعُ،  وتتحدَّثُ آهاتنا عن عدلها في كلِّ اللغاتِ..!!

 لمْ  نلتقِ حتَّى ونحنُ نقلَّدُ أوسمةَ الحزنِ المُزمنِ، ولكنَّنا نعرفُ أخبارَ بعض ٍ من خرائطِ الأنينِ.. نسألُ عن بعضٍ عبرَ رسائلِ الأحلامِ، ونهاتفُ بعضَنَا عبرَ موبايلات ِالدِّفءِ، نتبادلُ التَّهَاني، والأمنيَاتِ، والحكايا الليليَّةَ عبرَ فسفورِ الحروفِ، نبتهجُ معًا في مطلعِ كلِّ قصيدةٍ، وكلِّ لحظةِ عشقٍ جديدةٍ، نخلدُ اسمينا بدمعٍ حجريٍّ، ونبضِ قلبٍ مهدورٍ في ذكرياتِ أحبَّةٍ غابوا..!!

قرأت ُ في صديقي الشاعر ” محمَّد الهريوت”  آيات ِ الحزن ِ:

لمْ نكدْ نُشرقُ حتَّى         أسدل َ الليلُ الستارْ

لمْ نكدْ ننطق ُ حتَّى          أحكمَ الصَّمْتُ الحصارْ

كمْ حلمنا بجمالٍ               في أويقاتِ النَّهارْ

وبكيْنا من عذابٍ           فاتُّهمنا بالصّغارْ

فكتمنا في حياءٍ               دمعَنا تحتَ الدَّمَارْ

قدْ بدأنا بانتهاءٍ               وانتهينا بانتحارْ

كمْ نثرنا العمرَ وردًا           فجمعناهُ غُبارْ

قصيدة:( الغروب في زمن الشروق)

آيات حزنٍ مميتٍ، كانَ  الشاعرُ الهريوتُ يُرتلها وحيدًا، إلا من  خفقانِ قلبٍ نحيلٍ،.. آيات منغمةٍ بدمع ٍ ليلكيٍّ صادقٍ،.. حزنٌ على حزنٍ، فاقَ في ثورتهِ البراكينَ، وعلا في كبريائهِ على شموخ ِ السيولِ والأعاصيرِ، حزنٌ لمْ يورثْ الضعفَ واليأسِ لدى الشاعرِ لأنَّهُ موصولٌ بدفءِ وعنفوانِ القصيدةِ:

برغمِ كلّ ما كتبتُ

في دفاتري،

مازلتُ في مغاوري

أبحث ُ عنْ قصيدةْ

بكلِّ ما نزفتُ

من مشاعري

أحسُّ أنَّ قطرةً

بعيدةً.. بعيدةْ

هيَ التي

إنْ أشرقتْ  تكتبني،

هيَ التي

إنْ أمطرتْ تبعثني

لأنها فريدةْ

ورُبَّما..لأنَّها الأخيرةْ  –  (القصيدة الصديقة )

وعشتُ معهُ، وأنا أربضُ في إيقاعِ قصيدتِهِ- نزيفهِ  حالاتِ العاشقِ المُتيَّم ِ، الوفيِّ، المجنونِ، والمغدورِ أبدًا.. وكانَ الشَّاعِرُ ” الهريوت” يعيشُ نوعًا منَ الحُبِّ، يُسمِّيهِ العبقريُّ – ديستوفسكي: الحبَّ الفعَّالِ، وهوَ( شيءٌ قاسٍ رهيبٍ إذا ما قيسَ بالأحلامِ التي يحلمها المرءُ عنهُ)..، وما يُميِّزُ الشاعرَ – العاشقَ الفردَ الوفاءُ، وما  يقابلهُ منَ المحبوبِ والمعشوقِ الصدُّ والهجرُ والغدرُ:

وتتهمُ الدمعَ في مُقلتي

                        وتعلمُ أنّي نبيُّ الوفاءْ

أتنكَّرُ أنَّكَ سِرُّ احتراقي

                       وأنَّكَ للحُبِّ سِرُّ العَناءْ

فألّفتَ من كلِّ حرفٍ جميلٍ

                سُمومًا لتسقي بذورَ الهناءْ

وأنَّكَ خادعتَ حلوَ الليالي

             وغدرًا طعنتَ الأماني الوضاءْ

وأقبلتَ نحوي بفجر ِابتسام ٍ

            وأخفيتَ في الفجر ِموتَ المساءْ- قصيدة:( دم الليالي)

وقدْ قرأتُ فيهِ تلذُّذَهُ بالجنونِ، المفضي  إلى شفاء الجراح ِ العسيرة، ومانح الروح ِ الهائمة لحظاتِ اصطيافٍ في غاباتِ  ذكرى الحبيب الذي أدمنَ الصمتَ.. والبعدَ، وكانَ سخيًّا باذخًا لآلامِ القصيدة ِ..، وليسَ إلاَّ القصيدة.. ليسَ إلاَّ الدمع والجنون:

كلما حاولتُ أبني حُلمًا

                    كلما يزدادُ حرصًا في دماري

فاعذريني باتَ نارًا خاطري

                   رُبَّما من هولِ مأساةِ انكساري

رُبَّما من غربتي من هوسي

                 من جنوني من تفاصيلِ الحوارِ

اعذريني.. ما بقى في مذهبي

                      غير شعري ودموعي واعتذاري – قصيدة:( مومياء حُلم)

وهوَ الشاعرُ المُعذَّبُ الغريبُ، القادمُ من كتيبةِ الشُّعراء القدِّيسينَ، وهُم  صنفٌ يغنِّي العذابَ – حسب تعبير آرتور رامبو، وهوَ العذابُ الكونيّ، ويجدونَ في الغربةِ وطنًا، وهمُ ملوكٌ فيهِ، تاجهم الجراحُ، والهمومُ، وتاريخهم القصائد ُ، وقصص الحُبِّ،  والعلاقاتُ المباركة بأريج ِ الصباح:

أناشدُ

أغنيةً للجمال ِ

بلحنِ العويلْ

لذا سوفَ أمضي

إلى حيث

يقتاتُ حلمي.. الرحيلْ

غريبٌ أنا

يا فتاتي غريبْ

أقاومُ فيَّ جميلَ الشعورِ

لأحيا  كئيب..

أنا  عاشقُ الحزنِ

مولوعٌ  بالوجومْ

ولي  وَلهٌ.. بالغيومْ  – قصيدة: ( انزعاج)

قرأته ُ وقدْ وجدتُ في كلماتهِ وقصائدِهِ سِفرًا للإنسانِ الصادقِ.. بلْ صدق ٌيحيا،وهوَ الوفيُّ حتَّى الاحتراقُ والذوبانُ، تركَ هذهِ الصفةَ تفضحُهَا القصيدةُ، فتارة َ تُقرأُ عبر ذبذباتِ حروفِها، وتارة ً أخرى عبرَ أشواقِ الأصدقاءِ، ومواعيدِهم المضبوطة على ساعةِ الوقتِ المراوغ ِ:

شقيقَ الروح ِ.. أثقلني انتظارٌ     وأفزعَ خاطري شبحُ الفراق ِ

وأورثني الزمانُ..جحيمَ بؤسٍ    وأوصى لي بيأسٍ واحتراق ِ

فهلْ لي من زمانٍ..غير عمري      يشدُّ على ليالينا وَثاقي

وينثرنا عبيرًا من تصاف ٍ           ويجمعنا فتيتًا من تلاقي

فلا الأبصارُ تدركُ ما بلغنا           ولا الأيَّامُ تنذرُ باشتياقي – قصيدة: ( شقيق الروح)

ووجدتُ فيهِ وأنا أصطافُ بينَ إقحواناتِ كلماتهِ، وخواطره الشعرية، ذلكَ المُحبّ للحياة، القوي بأسبابها، وفيزياء أشيائها، ووابل مفارقاتها، وهوَ السَّاخرُ أبدًا منَ الموتِ..كأنهُ يشاركُ شاعر الهايكو الياباني تعريفه للحياة وهوَ يقول:

“الحياةُ؟ فراشةٌ

على عشبٍ راعشٍ،

هذا كلِّ شيء ٍ،

إلاّ أنَّها رائعةْ ” – ( سوين)

ويشاركهُ في رسمِ صورةِ الموت، بقدر ما فيها من ألمٍ ووجعٍ، وحزنٍ قاتلٍ، إلا أنّها  الصورة الشعرية الأكثر دقة ً، وبلاغةً، وعمقًا، وخيالاً:

“ورقة ٌ وحيدةٌ، ترتعشُ

وا أسفاهُ، ورقةٌ وحيدةٌ،

ترتعشُ..

تذروها الريحُ ” – ( آنون)

غيرَ أنَّ الشاعر ” الهريوت” يجدُ في الشعر ِ.. والوحي.. والعشقِ.. والعلاقاتِ أعظمَ الأسلحةِ، وأشدُّها فتكًا بالموتِ.. والانتصار عليه.. وهزيمته:

أقدِّمُ عمري فداءَ ابتسامٍ    وإنْ كانَ عمري رخيصَ الثمنْ

فإنَّهُ أعظمُ ما أستطيعُ          وعندي لأثمنُ ما في الزمنْ

أقدِّمُ قلبي ذبيحًا إليكْ          لعلَّ دمائي تزيلُ المحَنْ

ويصفو فؤادُكَ من كلِّ بؤسٍ  ويرحلُ عنكِ أنينُ الشجنْ – قصيدة: ( لأجلك ِ )

وقدْ فوَّض  الشاعرُ ” الهريوت” أمرَهُ للشعر ِ.. والحُبِّ، ويرى أنَّ بدونهما لا يستطيعُ المرءُ أنْ يتعلمَ فنَّ الحياة.. وأصبحَ في تقديرهِ للقلبِ مملكة ٌ مُقدسةٌ،والويلُ لمنْ  يتجسَّسُ على قلبِ الإنسان:

أرى كلَّ شيء ٍ

تشكَّلَ في هيكلي المتداعي

وروحي..مزيجٌ غريبٌ

حياةٌ وموت ٌ..، وعمر ٌوقبرٌ

تراني..خُلقتُ من المستحيل !!

مقالات ذات علاقة

المطر وخيول الطين نموذجاً

أمين مازن

خفايا الحس الشعري وفن الرؤية في بعض قصائد الشاعر حمزة الحاسي

عائشة بازامة

“شهاق” بنكهة النعناع

نورالدين خليفة النمر

اترك تعليق