الأنواء تظهر بوضوح مع تلاشي سراب النجوم المتعامدة على أفق المدينة؛ خرج الجميع كانت تلك الليلة تشبه يوم خروج لا ممكن من عودة الحياة فيه، أسرعت العربات نحو المغرب إلا أن خبرا ما تسرب في إحاطة مفاصل الطريق مليئا بالمغالطات.. اشتُبه في أمرهم! ما الذي جعل طائرة ما تعكس أضواءها على قافلة تثاقل فيها مسير نساء وأطفال ورجال يخوضون غمار الطريق الطويل بلا سلاح يحملونه..
زهراء أصابها التعب ومازالت تهذي باسمه في كل مرة تلتفت خلفها لعل طيفا يباغتها يصرخ خلفهم إنِ ارجعوا ..عودوا أنا حيُّ أُرزق.. فكوا قيودكم.. لا تستسلموا للخوف .. مازالت روحي تطوف كطائر يبشر بالحياة على وجه نهر غاب عنه الأحياء..
في طرف طريق تغطيه تلال وهضاب متشابكة، يخلو من كل إشارة تدل على إنسي يسكنه.. سمعته.. سمعت أنينا متقطعا.. تباعد الناس.. أشارت أمها إليها: أسرعي يا زهراء ولا تتخلفي عن الركب… لقد أنهكنا التعب والإعياء لعلنا نصل رأس القرية المحاذية قبل الظلام هيا يا بنت!
لكنها أصغت للنداء الآخر.. الآهات تسترسل هذه المرة: كأن ذلك الكائن شعر بأقدامهم وهي تنحت على الأرض معزوفة البقاء.
تباعدت الأصوات وظل صوته أكثر اقترابا.. انحنت بها الطريق وانحرفت عن بقية القافلة.. اختفوا كلية عن عينيها وظهر ذلك الجندي المثخن بالجراح يئن كثور خارت قواه لأول مرة ترى رجلا تلطخت معالم وجهه بالدماء ولم تعرف يمينه من يساره من كثرة ما التف حوله من نجم الأرض وبقايا من شظايا رشقت بعنفوان على ثيابه التي صارت تشبه الوحل”ماء إمية.. اسقوني ..هذا ما فهمته من كلمات كان يرددها الرجل دون وعي منه..
أسرعت دون تفكير فهذا بين حياة وموت.. لا.. بل موت محقق إن لم تسعفه بالماء تذكرت نفسها عندما تطوعت مع جمعية الهلال الأحمر كي تساعد العائلات والمدنيين من الخروج بسلام، لم يكن حينذاك الأمر يعني مدينتها بل كانت تهب لمساعدة الإنسانية أينما انقطعت مسافاتها؛ إلا أن مشهدا كهذا لم تقف عليه رأي العين كهذه اللحظة أسرعت نحوه تحمل قارورة الماء دون أن تهتم لأمر من تباعدوا عنها فقد اختفوا خلف التلال والهضاب وهذا الكائن يئن من وطء الجراح والآلام؛ لم تتعرف على ملامحه :من يكون ياتُرى؟ كل ما حرصت عليه أن تسقيه ماءَ لعل الحياة تبعث في جسده المائت من جديد وتكون كما قال غيث : اسقوا العطاش لتبعثوا الأمل فيمن تبقى من يائس!
القرار لا يأتي باختيار من أحد والموت يسير دون أن يفكر في اللحظة ؛ كان الانفجار التالي الذي هز الأركان هو ما جعل قلبها لا يجد قرارا حينئذ..
لقد تم استهداف أحدهم فكان الكل ضحية الواحد…
شعر الرجل المثخن بالجراح بآلام زهراء التي أسقط في يديها ولم تقو على الصراخ ولا البكاء كل ما أرادت فعله هو الانطلاق نحو أدخنة الحرائق لكنه بكامل قواه الخائرة منعها صارخا : لا تفعلي.. ستموتين!
قالت غاضبة : وماذا تعني لي الحياة؟! لقد رحلوا جميعا. أسرعت وظل الرجل يزحف ببطء في محاولة يثنيها فيها- عن الاقتراب من موت محقق..
هذا قدرهم ارجعي ..
وقفت زهراء على الأشلاء التي تناثرت في كل النواحي.
أوان لم يسبق له نظير احترقت الرؤوس قبل أن تنضج فكرة الإصرار على الحياة يا للأمل الذي تبعثر دون أن يجد طريقه! كنتُ أُنشد واحدا فصار قلبي يهذي بهم جميعا ..
وقعت مغشيا عليها وهي تردد: ليتني لم أتأخر عنكِ يا أمي!
الرجل الذي يزحف كأفعى تلفظ أنفاسها الأخير؛ كان يعي جيدا أنه هو المستهدف من طائر يريد القضاء عليه. عادت الطائرة تحوم من جديد لتتأكد من أن الرماد لم يعد يتنفس.
وكان يوما مليئا بأصوات شتى بين من يقررون أن الموت وقع بهم وأنهم ضحايا لجهة ما استهدفت ركبا من المدنيين والأطفال، تناثرت البقايا من الألعاب والأمتعة، وربطات الشعر والأحذية، اختلطت الدماء بالتراب ليستنكف هو الآخر عن أن يمتص رحيق حياته الذي أزهر ذات يوما بعشقه.
مضى يومان وزهراء طريحة التراب بالقرب من الأشلاء، وببالغ الأسى اقترب الرجل المصاب منها رويدا ليتأكد أنها حية، شعر بشيء من السعادة يغمره –رغم- ما أمامه من منظر يهد الجبل.
تنهد قليلا ثم رش على وجهها الماء.. أراد أن يطمئنها ؛ هيا لنهرب من هنا قبل أن يتم القضاء علينا.
ردت بصوت خفي: أمي أمي.
قال في حيلة منه ليهبها أملا ضائعا : لقد هرب نصفهم باتجاه الجبال. سكت محاولا الالتفات بصعوبة؛ مواريا دمعة تسربت بين أخاديد وجهه المتفحم المتوشح بالدخان، سنجدهم بعد أن نغادر هذا المكان. سكت ثم أردف: لا شيء يختفي في ظل هذا الإعلام.
نظرت نحوه مليا؛ شعرت أنه يريد أن يقع على الأرض ويدفن وجهه في التراب، كانت تتفحص بنيانه المتهاوي حتى وهو يداري ضعفه أمام أنثى الوعل . لم يكن الوعل بخير حين أصابه الصياد لقد قطع نصف المسافة وارتقى الجبل لافظا أنفاسه الأخيرة عند قمته.
تحركت ببطء بعدما تأكدت من يأس الصدى ومن البشر الذين كانوا بالأمس يدانون أحلامهم فباغثهم الموت ليفاجئهم باللقاء هناك.
قالت بصوت مليء بالألم: قلت لهم لا تخرجوا. الوقت غير مناسب.
الخوف عندما يسيطر على النفس. لن تكون النتيجة سوى ركام تحثه الريح في كون ما.
سمعا طائرة أخرى تحوم. قال الرجل: اخفضي رأسك في التراب والفظي أنفاسك.
هدأ الرجل وشعرت زهراء أنها ميتة حقا .أنفاسه الساخنة المتواترة في إثر بعضها جعلتها تشعر بالحياة التي لم تكن لتشعر بها حين الخروج. قالت في نفسها أتراني حية حقا. لقد رأتهم جميعا أطفال الحي حين كانوا يبادرون بعضهم بحرب مفتعلة الطفل الذي ينتظر والده من المعركة يظن أنه في كل معركة سيحضر له حصانا خشبيا .غلبها النعاس لتموت برهة من وقت. أما الجريح فظل مرتكزا بصره نحو السماء ويده على رأس زهراء التي كانت حينها مسجاة على الأرض كـ”فينكس فقدت وليدها فالتحفت بقايا ريشه توهم نفسها بعودته.