الضفة لا تُعبر على أعواد من قصب
ابراهيم النجمي
“رزق الله” عجوز أسود، ذو ذراعين مفتولتين، فارع الطول، يأنس إلي الوحدة ويتحدث إلي نفسه حين يتخلى عنه الآخرون، يحمل كيسا من النوى ويطوف الأزقة والحواري نصف عار، حتى إذا ما توارت النجوم عاد الي كوخه وتوسد كيسه، ثم لا يستيقظ من نومه إلا مع حلول ليل اليوم التالي ليتمكن بعدئذ من مواصلة الرحلة، نفس الرحلة.
– العبد قادم، عبد النوى قادم، ماذا يفعل العبد بالنوى؟.
هكذا كانوا يسخرون منه حين يرونه منحنيا بقامته المديدة باحثا عن النوى على طول الأزقة المتربة، وتراه في البداية يتظاهر بثقل السمع لكن حين يكثرون من مضايقته ينزل الكيس من على كتفه ويبسط راحته اليسرى ثم يخبط عليها ظهر راحته الأخرى ناشرا الوسطى الي أعلى ويجأر:
– هكذا يفعل العبد بالنوى، مَن منكم يقوى على مصارعة العبد؟ تقدموا، العبد قادم، العبد ذاهب، لماذا لا تقسموا عليّ من بياض خدودكم؟ ثم.. أتضحكون على الخالق أنتم أم على المخلوق؟ عبد يحب النوي وأية غرابة في ذلك؟
ويقول له أحدهم:
– لكن ماذا تفعل بالنوى؟
فيجيبه:
– انقعه في الماء وأشربه، ماذا يهمك من أمره؟ مَن لا يعرف الصقر يشويه.
وهكذا يضع كيس النوى فوق ظهره ويمضي مطرقا.
ماذا يفعل العبد بالنوى؟ صار إلي الجنون مذ تركته زوجته، الغريب أنه يفضّل النوى عن الخبز، حتى الطعام يضعه الجيران في غيابه قدام كوخه وكذلك القمصان والسراويل البالية، غريب أمره، إنه كالخفاش لا يظهر إلا ليلا.
هكذا كان يقال عنه ومع ذلك فلا أحد عرف سر اهتمامه بالنوى، وفي ذات ليلة برز فجأة عند حافة الجدار متمايلا بجسده الضخم ساحبا رجليه بتثاقل شديد، مسح الزقاق بعينيه وتوقف نظره عند باب منزل طيني متآكل الأطراف، أراح كيسه والتصق بالجدار قاطعا الحركة لما رأي رجلا منحنيا على الباب ملصقا عينه على ثقب المفتاح ورأسه يعلو ويهبط مثل ديك في لحظة عراك، ولقد ظل على تلك الحالة قرابة نصف الساعة حتى إذا نفد صبره شرع يدفع الباب بعنف غير مبال بزقزقته قائلا في صوت توسلي مبحوح:
– انزل يا مسعود، أتريدني أموت من الانتظار؟ في ظهرك بركة “سيدي عبد لسلام” أن ترد يا مسعود.
وأنتزع في غضب طاقيته الحمراء، نفضها مرتين ثم جلس على عتبة الباب وطفق يحرق اللفافة تلو الأخرى، وبين الفينة والأخرى كان يلصق أذنه علي شقوق الباب، عدّل من وضع طاقيته وأضاف متوسلا ومتمسكنا:
– لهذا الحد خلا قلبك من الرحمة يا مسعود؟ هل يرضيك أن أقف هكذا ارتجف من البرد وأحرق صدري باللفائف؟ أهذا حق الصاحب على صاحبه يا سعودة؟
وظل للحظات في انتظار الرد ثم سمع مسعود عبر التأوهات المكتومة بالعناق يقول له:
– لتدع سيدك عبد السلام يكسر ظهري إذا كان في مقدوره أن يفعل ذلك، دعه يرميك ببركته من فوق السقف لتأخذ دورك.
وفيما ظل الغضب يحرقه نزع طاقيته وعضها بشدة حتى آلمته اسنانه ثم اعتراه تصرف جنوني وبال عليها بعد أن داسها بقدمه أكثر من مرة. وإلي ذلك الحين كان “رزق الله” لا يزال ذائبا مع الجدار ثم امتسح به وسرق باتجاهه خطوتين. الرجل كان قد أقتعد العتبة من جديد وتناول لفافة وحين التمع وجهه عقب اشعاله لعود ثقاب عقد “رزق الله” ما بين حاجبيه وأستوضحه من خلال أثر لجرح غائر منحدر من عينيه حتى اسفل ذقنه، وزاد فمات مع الجدار وكسب باتجاهه خطوتين طويلتين وحينذاك قفز من مكانه كملسوع والتصق بضلفة الباب حابسا أنفاسه، وسحّب “رزق الله” خطوة، خطوتين، ثلاثة ثم أندفع نحوه بقوة، وصاح الرجل:
– العبد قادم يا مسعود، رزق الله العبد يا مسعود.
وعندما هم بالفرار عكف “رزق الله” رجله أمامه حتى سقط متعفرا بالتراب ثم ارتمى فوقه مطوحا قبضتيه الفولاذيتين حول عنقه وقال له بصوت عال بعد ان بصق على وجهه:
– العبد قادم يا مسعود، أي عبد يا فاسد، أو لسنا جميعا عبيدا لله؟ انهض إذا كنت رجلا ودع مسعود ليحررك من قبضتي العبد، انهض، لماذا ترتمي هكذا كبنت.
وفيما حانت منه التفاتة سريعة الي الباب علي اثر سماعه لصراخ مكتوم في الداخل كان الرجل قد تحرّر من قبضتي “رزق الله” وبصورة غير متوقعة غيّب يده في سرواله وضيّق الخناق هناك ما جعل “رزق الله” يغمض عينيه في وجه الألم وأحس بشيء ما يخذله من الداخل في حين أستغل الرجل الفرصة فنصب رجليه في صدره ودفعه بكل ما يملك من قوة لكن “رزق الله” سلط قبضتيه حول عنقه من جديد وصرخ في وجهه حانقا:
– من علمك أن تدس يدك على نحو كهذا يا قرد؟ أتلجأ الي حيل الضعفاء والجبناء؟ لماذا لا تريد أن تصدّق أن خصيتي العبد من نحاس؟
في هذه اللحظة فُتح الباب على نحو موارب وأتلع “مسعود” عنقه مستطلعا.
كان بانتظار لحظة الهرب لكن “رزق الله” رمقه لما تموج ظله أمام ضوء فنار من الداخل وسمع امرأة تهمس من خلفه:
– لنخرج الآن والتصق بالباب، انه لا يراك.
لكن ما أن خطا “مسعود” خطوتين حتي أنقضّ “رزق الله” عليه وخنقه ثم سدد له ركبة أسفل الصرة جعلته يصرخ ويتقيأ:
– خمر يا عريس الغفلة! كم زجاجة شربت أيها الساقط، اتفو!، أفسدت عليه ليلتك، ايه؟
وحينها سمع أقدام من خلفه وهو يضيّق الخناق علي عنق “مسعود ” ثم أنفجر ضاحكا حتي أنثني الي الخلف لما رأي الآخر يطلق ساقيه للريح (خزي!) من خلفه سمع وقع اقدام التفت ضحك ملتقطا أنفاسه بصعوبة كان خصمه الآخر قد أطلق ساقيه للريح وزاد فاحكم الخناق على عنق مسعود واعتراه شعور مفاجئ الاشمئزاز حيت بدأ منظره وهو مغمض في وجه الألم مثل عجوز يمص ليمونة وفيما الذعه بركبة اخرى كان مسعود قد أطلق صرخة مكتومة وتكوم على الأرض منتفضا مثل ديك مذبوح:
– هذا عبد النوى يا مسعود، تمرغ، تمرغ جيدا في التراب، والله لولا خوفي من الله لفعلت بك شيئا غير هذا.
ونفض رزق الله يديه ورقبته والتفت الي يمينه ويساره وحين أصدر مسعود صوتا مثل شاة مذبوحة لكزه بقوة على مؤخرته حتى انقلب على ظهره، عطس واتجه الي الكيس حين انحنى على الكيس ليرفعه فعقره ظهره، عدل قامته بالتدريج فعقره مرة أخرى لكن هذه المرة كعرق من نار، ثبت راحتيه في وسطه ناهضا قامته، لذعه عرق النار فانحنى من جديد، غمره العرق وتضببت عيناه، اقتعد الكيس مستندا على الجدار ثم ظل يفكر، فكر في زوجته مريزيقه، رأى نفسه متمددا على بطنه في الكوخ بينما تدعك ظهره بالزيت والخل وتحدثه عن أيام زمان حين كان يرمي في طريقها قشور الموز ويدعها تحلف برأسه قبل ربه وتتذوق الملح وتشك في ملوحته وراقبها عبر كثافة اللون الضبابي وراها تمازحه، مرة تضربه على قفاه وتدغدغه تحت ابطه ومرة تعض له شفتها وتغمزه بعينين حاليتين من الرموش ومرة أخرى تنهض واقفة لتغمر الكوخ بالبخور والحناء ورغرغة الشاي بالنعناع عبر توهج موقد الفحم وراقبها اخيرا وهي تنتفض على فراش الموت منتزعة عقد العقيق والقرنفل ورأس الغراب المتدلي من شعرها المضفور بعناية وفيما داعبت نسمة طرية شاربيه المتفتقين بالعرق وافاق لنفسه وهمّ بالنهوض امتد عرق النار الي عروق رقبته فأغمض عينيه عاضا شفنه وثبت راحتيه في وسطه وحاول النهوض سارقا عرق النار لكن عرق النار سرقه في منتصف الطريق وعندئذ قال له عقله (لتنهض يا رزق الله فالمرء لا يغمض عينيه في وجه الألم الا اذا كان مخذولا من الداخل). وعاد رزق الله فثبت راحتيه حول وسطه من جديد وتغربل في وجه الألم الي أن تمكّن من رفع الكيس على ظهره ثم ابتلعه الظلام.