في لحظة الدّم لا يكتب الرّوائيّ شيئًا سوى الصمت، فالدّم يجعل الرؤية مضبّبة وهلامية، خاصة إن اختلط بالحبر بسبب موقف الرّوائيّ السّياسي من مذبحة الدّم، والتي قد يكون طرفًا مباشرًا أو غير مباشر فيها، فغالبًا ما يتم استثمار موقف الرّوائيّ من قبل أحد الأطراف المتصارعة، لتأجيج الفتنة أكثر، وإقناع مغفّلين للخوض في صنعة القتل، واعدين إياهم بجنة أو حرية أو مكاسب دنيوية أخرى، مال، نساء، منصب.. إلخ.
لا أعتقد أن الرّوائيّ سيكتب شيئًا مهمّا، لو دوّن لحظة الدّم في حينها، فمع الدّم ترتفع وتيرة الألم، لتختفي الرؤية ويعمّ العمى، ومعظم الروايات العظيمة لم تكتب في حينها، وكتبت عن ماض بردت ناره أو مستقبل لاحقته حروف رائية، عندما انطلقت ثورات الربيع العربي كتبت كتابًا بعنوان “ثوار ليبيا الصبورون”، عبارة عن مشاهدات لأيام ثورة 17 فبراير الأولى في ليبيا، رصدت فيه مشاعر الشعب، وهو يزيح حجب الخوف فجأة، وينقض على دكتاتور ظن أنه سيخلد دائسًا على رقبة شعب، رصدت الأغاني، خربشات الحيطان، تكافل الناس، وحدة الهدف، لحظة الاقتحام، تذوّق طعم الحرية لأول مرّة.. الخ، هذا الكتاب بالطبع ليس رواية، فبعد خمس سنوات من انطلاق الثورات، تغيّرت الكثير من المفاهيم، ولا أحد سيكتب بفهمه للأحداث خلال عام 2011 و2012..
إبراهيم الكوني الرّوائيّ الليبي كتب رواية واكبت الأحداث، بعنوان “فرسان الأحلام القتيلة”، صدرت في كتاب مجلة “دبي الثقافية”، لكنه توقف بعد ذلك مباشرة، ولم يكتب روايات تخصّ ثورات الربيع العربي، فكتب “عدّوس السُّرى” سيرة ذاتية في أكثر من ثلاثة أجزاء، ثم روايات أخرى “ناقة الله” وغيرها موضوعها هو الصحراء التي بدأ يرحل بها شمالًا مكانًا وزمنًا.
الدّم لا يتركك تكتبه، ومن واجب الرّوائيّ أن يوقفه أولًا من خلال نشاط صحافي أو سياسي أو اجتماعي، لا يمكن للقلم النبيل أن يكتب، وأناس تصرخ وتموت، فلنوقف المذبحة أولًا، وبعد ذلك نفكر في شيء اسمه رواية.
الدّم في حد ذاته رواية آنية تكتبها الحياة، بلغة الألم واليتم والفقدان والصراخ والوجع والجنون، وقراء الروايات التي يكتبها الدّم ملايين المخلوقات المنتشرة في كل حقب التاريخ، إننا نقرأ روايات آليًا كتبها الدّم لوحده، روايات طازجة عن مذابح عدة، في هيروشيما ونجازاكي، في أميركا، في فيتنام، في فلسطين، في جنوب أفريقيا، وبورندي، في أوروبا كلها، في كل بقعة من العالم ثمة دم أريق، كتب نفسه، وقرأه دمنا الحالي.
الدّم مثل التاريخ، يعيد نفسه، ويقرأ نفسه، وينظف نفسه أيضًا، ولا يكتبه الرّوائيّ إلا بعد أن يجفّ، حرارة الدّم أعلى من حرارة الحبر، فالدّم يذيب الحبر، ومن هنا على الرّوائيّ الناضج أن يترك بركة الدّم تجف قليلًا، أو على الأقل تهدأ من الفوران، حتى يرى حجر رؤيته وهو يرميه فيها، وما يصنعه من دوائر وثقوب وربما فقّاعات تحلق بها الرياح عاليًا نحو المجهول.
2 تعليقات
كم تمنيت اخي الفاضل محمد الأصفر لو كانت فبراير صورة من بيان الأول من أيار 2010 بيان العز بيان المتقاعدين العسكريين الأردنيين ولكن للأسف فقد كانت ثورة فبراير جزءا من هذا الربيع العربي الزائف الذي هو جحيم باطني ولكن ظاهره ربيع مشرق وباطنه جحيم كالح السواد فقد تمنيت لو كانت ثورة فبراير بيان الأول من أيار 2010 رقم 2 ولكن هيهات لامنيات المرئ
نشكر مرورك الكريم