من أعمال الفنان التشكيلي علي الزويك
المقالة

بيان عصيان ثقافي

لا يوجد أدب ليبي حديث قادر على صنع ثورة تضاهي حجم حرب الثمانية أشهر التي مرت بها ليبيا. ما نعوّل عليهِ الأن من أدب “ما بعد الثورة” هو ذلك الذي سيكتبه أو ينشره أدباء اعتدنا على رؤية أسمائهم لفترة طويلة من الزمن، أمّا الأسماء الجديدة أو أسماء كتّاب “ما بعد الثورة”، فـ خليها فـ سرك: لا توجد أسماء جديدة، متمكنة، أو تحمل على عاتقها تجربة قراءات ونضوج ثوري ساخن، أو على قدر معقول من الثقافة القادرة على مواكبة الحركة الأدبية في العالم العربي أو المجتمع الثقافي الدولي.

الأسماء الجديدة التي أراها وأقرأ لها اليوم، في أدبنا الليبي، من قصة وشعر ومقالة فكرية، لا تملك قدرة أدبية وثقافية خصبة تساهم في صناعة ثورة أدبية حقيقية، وأنا هنا أقصد أسماء أدبية شابة في سنوات عمرها الأولى، بما تحملهُ من طاقة للحياة والكتابة والولوج في التجارب الدنياوية وخلق حالة قلق وجودي يصبّ في الحالة ابداعية. وان كانَ الخوض في هذا الموضوع لا يزالُ مبكّرًا، ذلكَ أنّ معظم الحركات الثقافية الثائرة كانت حصيلة كمّ هائل من الوعي الاجتماعي، كما حدث في أمريكا الخمسينيات اثر ظهور حركة “جيل بيت”، أو المكسيك مع ظهور حركة “الشعراء الفوضاويون” في السبعينيات، أو حتى قبل ذلك بعقود، أي في العشرينيات من القرن المنصرم في باريس، إلاّ أنّ هذا القدر الكبير من الخراب الثقافي الذي تعيشه ليبيا الأن، يحتاجُ لعقود حتى يتمكن من خلق ثورة أدبية وثقافية تكونُ احدى ركائز تدمير المجتمع واعادة بنائه من جديد.

أتحدّث بهذه السلبية الأن، وأنا أرى العديد من النشطاء السياسيين والاجتماعيين يستغلّون الحرية التي تتمتع بها البلاد في خلق ثورة على صعيد حقوق الانسان والتوعية وبناء فكرة المواطنة، بينما يتخبّط الكاتب الليبي الشاب (على المستوى الأدبي والفكري) في خربشات غير ناضجة وغير قابلة على استيعاب ماهية الادب وماهية الكتابة، خائفين من المجتمع ويحاولون استرضائه. لا يعرف الكاتب الليبي الشاب، أو بالاحرى، لم يصل الكاتب الليبي الشاب إلى مرحلة من الوعي والثورة التي تؤهله للاصطدام بالمجتمع وتعريته، أو حتى الاطلاّع على تجربة الثورات الثقافية على مرّ التاريخ. بدون أدنى مبالغة، لم يصل الكاتب الليبي الشاب مرحلة حتى تأييد أي شكلٍ من أشكال الابداع والفن التي تصطدم بالمجتمع، وباتَ اليوم جزءًا من مرآة المجتمع، عوضًا عن كونه القطعة المكسورة في زاويتها.

لم يكن للمثقف الليبي، سواء الأدباء أو الشعراء أو المفكرين أي دور في ثورة السابع عشر من فبراير، كما لم يكن لهم دور فيها، ولا يوجد لهم دور بعد اعلان التحرير والقضاء التام على النظام السابق. المثقف الليبي منذُ نهاية السبعينيات وحتى توقيت كتابة هذا البيان / المقال/ الاستهجان، غاب دوره عن الساحة الليبية، لهذا من الصعب لوم المجتمع الليبي وقبليته ونفاقه وجهويته وفقدانه للصلة التاريخية بالبلاد (حتى استعار لنفسه هوية أخرى) إلاّ بلوم المثقف الليبي وسلبيته وخوفه اللذان أوصلانا إلى هذه المرحلة البائسة في تاريخ بلاد من المفترض أنّ تاريخها الثقافي يمتدُ حتى آلاف السنين.

والأسباب التي ساهمت في هذا الركود (حسب وجهة نظري) هي ما يلي:

1 – محاربة نظام القذافي لكل الأشكال الأدبية والتجمعات الثقافية وخلق حالة من الخوف لدى المثقفين بدعمه لكل أشكال التخلف الاجتماعي وقيامه بسجن جيلٍ كامل من الكتّاب والشعراء والمثقفين وفرض القبضة الحديدية على كلّ أشكال التقدّم الثقافي ومساهمة النظام السابق أيضًا في طمس التاريخ والحريات العامة. بالاضافة إلى تهميش المكتبات العامة والخاصة واحتكار سوق النشر وفرض حالة من العزلة والحصار الثقافي.

2 – عدم اصطدام المثقف الليبي (بعد فترة السجن) بالسياسة، أو المجتمع وادانه نفاقهما وفسادهما. بالاضافة إلى “الخنس” والريبة الذي يعيش في صلبه معظم المثقفين والذي أنشأ معمعة وابتذال في الأوساط الثقافية والأدبية.

3 – المناهج التعليمية التي دمرت عقولنا، نحنُ الأجيال الأخيرة. بالاضافة أيضًا لقلّة الوعي والثقافة عندَ هيئة التعليم والتي بدورها صنعت من عقولنا كرات لحم ممسوخة الهوية.

4 – المجتمع الممتلئ بكل أشكال العهر الثقافي والمكبّل بكل الأغلال الثقافية الدخيلة، وبالأخص الدينية. والمؤلم في الأمر، استقبال المثقف الليبي لذلك بكل رحابة صدر دون التجرؤ على محاربته.

هذهِ الأسباب وغيرها صنعت من الجيل الأخير من الكتّاب والشعراء والمفكرين، والذين كانوا أيضًا نتاج فترة الانفتاح الثقافي الذي يلي الحصار، ومعاصرته لاحقًا لـ حرب التحرير، جعلت منه جيل بائس، خائف، و”يساير” المجتمع ويطبّل له، بل يدعم كلّ الحركات التي تهدف لطمس حرية التعبير والكلمة وتحارب الجمال الانساني، بالاضافة إلى حصيلة من النفاق تجسمت في هذهِ الفئات:

1 – كاتب ليبي شاب يعتقد أنّ الكتابة الابداعية هي زرع للفضيلة والتبشير بها وكلّ ما يخالف ذلك لا يعتبر أدبًا.

2- كاتب ليبي شاب ينتمي لحزب متطرف دينيًا ويؤمن بأنّ الكتابة هي “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” وكلّ ما يمثّل هذهِ الجملة من انحطاط ثقافي وأخلاقي وأدبي.

3 – كاتب ليبي شاب ينتقد الفقهاء وينبذهم حتى دخل فجأة في عالم تفسير القرآن على هواه، ليصيرَ بينَ ليلة وضحاها بلا فرق بينه وبين الفقهاء الذين ينتقدهم، بالاضافة إلى ادعائه كتابة الشعر أيضًا.

4 – كاتب ليبي شاب قرأ بضعة كتب لكتّاب فنتازيا عاديين وتناسى الأدب الحقيقي والأسماء الابداعية، ولم يطّلع حتى على الأدب الليبي القديم والمعاصر، وباتَ يعتقد نفسه اليوم “أول كاتب ليبي”.

وان كانت الحركات الأدبية في الخمسينيات ساخرة من التقاليد الليبية وتنتقد المجتمع في مجمل محصولها، وان كان جيل السبعينيات أداة لمحاربة هذه التقاليد، ومن ثمّ جيل التسعينيات أداةً للهروب من المجتمع إلى رومانسية الوجود، إلاّ أنّ كتّاب الالفينيات جاءوا حصيلة كل هذهِ الانكسارات والهزائم والخوف والكبت والبرود الجنسي، ليكونوا هذا الحيوان المنوي الميّت على جدار الأدب الليبي.

عصيان ثقافي على كل ما هو محظور… الكتابة بحرية، وكما قلنا ونقول: “نحنُ نصنعُ الابداع، يا أولاد الـ..”… حاشاكم!

مقالات ذات علاقة

المستنقع الآسن

عمر الكدي

رستم… أم رعية؟

محمد عقيلة العمامي

حكاية عن كاتب لم يثرثر

محمد عقيلة العمامي

اترك تعليق