قصة

مـاكينة حـلاقة*

 

من اجل زغرودة فقد والدي أدوات الحلاقة إذ كنت سرقت مقبض الحلاقة الوحيد ذي اللون الفضي استعدادا لعرس الجيران.!

المقابض الصينية المزركشة بالذات سلاحنا المفضل في الأعراس حين كنا صغارا.

نتناوب إطلاق الفرقعات ونستمتع بإخافة الفتيات وننتشي بالزغاريد. كنا نحشو المقبض بالكبريت ونسده بمسمار ونغمض أعيننا خوفا واتقاء للفرقعة المرتقبة ونضرب المسمار على الحائط.! في غمضات العيون تلك فرصة للحلم. نسرج جيادنا الجامحة نتأسد ونتهيأ لنزال أسطوري, تدوي الأسلحة تفتك بالسكون فتزغرد النساء للفرسان!تصهل الخيول انتشاء فتنبت لها أجنحة مهيبة تقهر الأفاق وتغزو أكوانا بعيدة.

لا يلحق الفارس العار إن خذله سلاحه أو إن لم يكافأ بالزغاريد, قد ينتابه بعض الشعور بالخيبة أن تناثر الكبريت أو أنقذف المسمار الصدئ بعيدا

كان لغزواتنا تلك قانونها المقدس إذ لا معنى للأسلحة ولا للفرقعات خارج الأعراس.! لذا تظل ماكينات الحلاقة في أمان حتى موعد العرس القادم.

قفزت لمخيلتي كل تلك الصور حين قرأت بطاقة الدعوة الموجهة إلي بمناسبة عيد الجيش المجيد, وشدتني بالأخص تلك الكلمات المضافة بالقلم أسفل البطاقة ” وفر على والدك ماكينة الحلاقة هذه المرة”ضحكت كثيرا من تلك العبارة الخبيثة. والحيلة الماكرة لإغوائي بالحضور ولم يكن صعبا علي أن اعرف الداعي, فما زال هو نفسه بأسلوبه الساخر المتهكم لا احد غيره ” المبروك”احد رفاق الطفولة البائسة. كان مشاكسا ذكيا مولعا بالشعر حتى إننا أسميناه استخفافا بالمبروك الشويعر ! ولم يرتقي لدينا كشاعر أبدا حتى بعد أن انتشرت أشعاره عبر الصحف والإذاعة!

اختفى فجأة وكف عن كتابة الشعر ثم انبعث فجأة من جديد عبر السطور المتهكمة أسفل بطاقة الدعوة تلك. والحق انه افلح في إغرائي.

وفي يوم الحفل أبكرت في الحضور تفاديا للزحام وقادني دليل لموضع جلوسي كان من سوء حظي غير بعيد عن مذيع الحفل.!

بعد حين بداء العرض بالأناشيد وضجة الطبول. ومشاهد الجند الموشحين بالشارات و الأوسمة والأنواط نقش على بعضها وسام الشجاعة وأخرى الاستشهاد والفوز العظيم فيما كتب على البعض الآخر أسماء لمعارك لم تقع أبدا!

قاطعني الشويعر بضحكته المدوية:

– مازلت كما أنت متأملا صامتا مهموما حتى انك فقدت كل شعر راسك ! كف عن ذلك يا رجل.

عانقني بحرارة وشرعنا رغم الضجة نستعيد الذكريات.

ضايقني مذيع الحفل بحماسه الزائد ومديحه الكاذب لجيش لم يحارب.

كان المذيع يتصبب عرقا يكاد يلتهم ناقل الصوت و في يده الأخرى يمسك بالأوراق ويتلو أسماء لمعارك وانتصارات لم يسمع عنها احد!

حطت ذبابة على انفه الأفطس, ودعكت رجليها مرارا ثم مسحت جناحيها في دلال أغاظ فيما يبدو المذيع المتحمس! فنفخها بقوة لكن الذبابة تشبثت بمكر بأنفه وأرخت جناحيها. ترك المذيع أوراقه ولاحق الذبابة بيده طارت بعيدا فقال بغضب:

– اللعنة!

ثم أدرك انه خروج عن النص وان ناقل الصوت قد التقط الكلمة غير المبررة فاستدرك:

– اللعنة على كل من يحاول تحدينا أو يلتف حولنا.!

عادت الذبابة تحلق فوق رأسه غير آبهة بالسباب فكرر المذيع بغضب واضح: اللعنة على كل من يلف ويدور! اللعنة اللعنة اللعنة.

هتفت الجموع :

– اللعنة اللعنة اللعنة.

اختفت الذبابة فاستعاد المذيع هدوءه وعاد يتلو الورقة بنبرة غاضبة. همس في أذني الشويعر :

– الم اقل لك مازلت كما أنت!

أهملت خطاب المذيع وسألت الشويعر:

– أين أنت الآن؟ أمازلت تكتب الشعر؟

ضحك في استهزاء وأجاب:

– كلا لقد هجرته واستبدلته بمهنة أخرى أحسن, إنا الآن بمرتبة أعلى قليلا من وزير!

ضحكت من سخريته وسالت:

– حسنا وما مهنتك؟

فمال نحوي وهمس: كاتب هتافات!

فابتسمت لإجابته المتهكمة لكنه استل من جيبه قصاصة صغيرة ودون:

– عاش السلطان قاهر الزمان و محرر الأوطان!

وأومأ برأسه فتقدم احدهم تسلم الورقة وناولها للمذيع.

فقطع المذيع اللبق استرساله في وصف كاسحات الجليد العملاقة وردد الهتاف:

– عاش السلطان قاهر الزمان و محرر الأوطان.

فرددت ورائه الجموع في حماس.

أذهلني المشهد فغرقت في الصمت لكن الشويعر قراء ما بذهني فبادر:

– أريدك أن ترى هذا . لهذا بالذات دعوتك. انظر إلى تلك الآلات الضخمة. هناك تلك العربات تأملها جيدا.

بدت في صفوف تتدافع مطلقة سحبا من الدخان في شكل كرات كبيرة داهمت الجموع فجثى بعضهم على ركبتيه يتقيأ فيما استغرق البعض الآخر في سعال طويل . وحين اقتربت العربات أبطأت السير وكفت عن إطلاق سحب الدخان. كانت العربات محملة بأنابيب ضخمة مرسوم عليها علامات النصر وشعار الدولة وقبة مذهبة خلتها من بعيد ترمز لقبة القدس لكنها حين اقتربت صارت خوذة لرأس جندي بملامح أنثى يشبه كثيرا أبطال الدعايات للعطور المستوردة!

لم انتبه جيدا لأشكال الأنابيب الضخمة المنتصبة على العربات إلا حين همس الشويعر في أذني:

– هل أعجبك المشهد؟ تأمل جيدا, إلا تشبه هذه الأنابيب مقابض الحلاقة القديمة!

وكتب على قصاصة من الورق ” أغمض عينيك واضرب المسمار على الحائط”

هتفت الجموع في حماس. لم يفهم أحدا شيئا.

استغرقنا في ضحك هستيري حجبته فرقعات مدوية أعقبتها زغاريد صدحت في نفس طويل…

21فبراير 2007

___________________________________

 ليس هناك أي علاقة بين هذه القصة واحتلال القدس أو سقوط بيروت أو سقوط بغداد ولا بالهزائم 48, 67, 73. ولا علاقة للقصة أيضا بتزايد حجم الأنفاق العربي على السلاح ليبلغ حجمه في دول مجلس التعاون الخليجي وحدها مبلغ 233مليار دولار مابين أعوام 2000 إلى 2005.

مقالات ذات علاقة

الطنطونة

عزة المقهور

الدالـيا- الحلقة الاولى

المشرف العام

مكابدات يومية

الجيلاني طريبشان

اترك تعليق