أصدر الباحث خالد الحروب كتابا عن “المثقف القلق ضد مثقف اليقين” ناقش فيه صورة المثقف لدى المفكرين والباحثين العرب والغربيين، وهو يستقصي أدوار المثقفين، متحدثا عن صعود المثقف الناقد، وصولا إلى المثقف القلق. الكتاب دراسة جديدة ومتجددة “قلقة” تسعى في تقديم رؤية جديدة لموقع ودور وانعطافات المثقف في العالم العربي، وفي اشتراطات المرحلة الراهنة. وهو عمل مرجعي اجتهد في التأصيل لمفهوم المثقف القلق والمقلق، الذي لا يؤمن بأيّ حقيقة، كما لا يدعي امتلاكها.
ينادي هذا الكتاب بضرورة مواجهة مثقف اليقين بالمثقف القلق الذي لا يلين ولا يستكين إلى أيديولوجية أو عقيدة فكرية، ولا يستسلم إلى قناعة نهائية. ويرى الأستاذ بجامعة كامبريدج، سابقا، أن مقاربة صوت وصورة المثقف في الحقبة الحالية يأتي في طليعة المهام المطروحة على المثقف القلق، الذي يفترض فيه أن يتسلح بالحس النقدي، وبهاجس المساءلة وأخلاقيات الحوار والمساجلة، ونقد كل الأفكار، والانقضاض على ركودها، حتى لو كانت أفكاره هو نفسه. والحال أن هذا القلق الفكري واللايقين الذي يدعونا إليه خالد الحروب إنما يزداد أهمية وراهنية، ويتصاعد بشكل ملحّ تحت وطأة الأزمات الكبرى، على حد توصيفه، وفي مقدمتها أزماتنا المزمنة، وانتكاساتنا العربية الراهنة.
ويأتي الكتاب استئنافا لمشروع نقدي، بعد دراستين سابقتين هما “هشاشة الأيديولوجيا جبروت السياسة” و”في مديح الثورة.. النهر ضد المستنقع”.
مثقفون أم مثقف؟
لما حاول خالد الحروب تقديم تعريف في هذا الكتاب لم يعرّف المثقف، وإنما عرّف المثقفين بالجمع، وهو يذهب إلى أنه “في شأن التعريف يمكن الاكتفاء هنا بالنظر إلى المثقفين بكونهم الشريحة المميزة في المجتمع من حيث امتلاك الوعي التاريخي والتأهيل العلمي والعمق الفكري وتوظيف ذلك في إنتاج الأفكار، استغراقا واهتماما بالشأن العام، ومحاولتها، أي هذه الشريحة، طرح رؤى تغييرية على المجتمع و(العالم) الذي تنتمي إليه”. ذلك أن الفعل الثقافي الذي ينشده الحروب هو ممارسة جماعية، ينتقد ويفكر ويفكك ويسائل ويناضل من أجل الجماعة والمجتمع.
وإذا كان الكاتب قد انتقل هذه المرة إلى الحديث عن المثقف “الفرد” وهو يتحدث عن أهميته، إلا أنه سرعان ما يعيده إلى دائرة الجمع والجماعة، حين يرى أنه، و”لئن اختلف كثيرون على درجة أهمية المثقف ودوره، فإن التجربة التاريخية ماضيا وحاضرا تؤكد أهميتهم تلك”.
وهنا، يورد الباحث عددا من الدراسات الغربية التي استحضرت صورة المثقف في عالم اليوم، ووضعه في مجتمعات العولمة وما بعد الحداثة، وأثره في عالم اليوم، ومن ذلك نظرية براين تيرنر وجون كين، وهما يتفقان على خفوت دور المثقفين وتراجعهم في سياق التغييرات العالمية على صعيدي الاتصال ووسائل الوصول إلى المعرفة.
في مقابل مواقف ونظريات وأخرى، ومن ذلك ما يذهب إليه توماس سويل في كتاب “المثقفون والمجتمع”، حين يجزم بأنه “لم تمرّ في تاريخ البشرية أيّ حقبة اتصف المثقفون فيها بمثل هذه الأهمية التي يتصفون بها في العالم الراهن”.
سوى أن خالد الحروب ينبهنا إلى أن مثل هذا التوصيف للمثقف إذا كان يصدق على مثقفي المجتمعات المتقدمة والمتعولمة، إلا أنه “لا يصلح تماما لتوصيف حالة وموقع المثقفين في مجتمعات أقل عولمة وتقدما”.
والحال أن المجتمعات النامية هي الأكثر استدعاء لمن سيسميه الكاتب “المثقف القلق”، وهو يستحضر هنا ما ذهب إليه السوسيولوجي الماليزي سيد حسين العطاس من أن “مشاركة المثقفين ومساهمتهم في هذه المجتمعات، وفي خضم عملية أوسع من التغيير الاجتماعي، يمكن اعتبارهم ضرورة اجتماعية وفكرية، وليس ترفا فكريا أو تمرينا فوقيا”.
السوبر مثقف
من جملة المثقفين الذين يتحدث عنهم الكتاب ويرسم صورهم بتشخيصية دقيقة هنالك المثقف الخارق، وما هذا “السوبر مثقف” إلا تمثل خاطئ لأدوار المثقف ومهامه. إنها مجرد “فكرة مغوية” بتعبير الكاتب، تصور المثقف في هيئة كائن أسطوري قادر على اجتراح الخوارق. ويرى الحروب أن المثقف وإن وقف في صف مواجهة الدكتاتوريات والاحتلالات والاستبدادات… سوى أنه ليس كائنا خارقا، بل هو فرد من أفراد المجتمع، في البدء والمنتهى، يعيش حياته اليومية، مثل باقي البشر، وهو أشد الناس حرصا على الحياة وعلى الدفاع عن الحق في الحياة، كما يتحدث عنه المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه.
من هنا، ليس المثقف منذورا للقيام بالمعجزات، وما المعجزة إلا يقين اليقين. بينما يحمل المثقف فكرا لا يهادن، بل أفكارا بصيغة الجمع والاختلاف. وهنا، يورد مؤلف الكتاب واحدة من أهم خلاصاته المثيرة للتأمل، وهي أن “المثقف أهم منه”. ذلك أن كل المفكرين والفلاسفة الذين أعدمهم الطغاة تركوا من ورائهم أفكارا ونظريات قلبت مجتمعات وغيّرت مسارات. وأهميتهم جاءت بالضبط من هذه النقطة، وليس من دورهم السياسي المباشر أو الخارق للعادة.
في هذا السياق، ينتقد الكاتب مثقف القبيلة، ما دام مثقفا أيديولوجيا وطائفيا، ينحاز إلى طائفة على حساب أخرى، أو لأيديولوجية “صلدة” بتعبير الكاتب، الذي ينتصر لثلاث صفات في المثقف الذي يدافع عنه الكتاب ويرافع من أجله، أي المثقف الناقد والمثقف العضوي والمثقف القلق، وهؤلاء، في ما يسميهم الكاتب، هم “حملة لواء التغيير رغم أنهم ليسوا خارقي القدرات ولا من أصحاب المعجزات”.
ولأن المثقف القلق ليس معجزة، فإنه كائن مفترض وممكن، يحمل أفكارا قابلة للتحقق، بقدر ما هي قابلة للنقد والرفض والتجاوز، وتلك هي صورة المثقف القلق ضد مثقف اليقين. مثقف لا يثق حتى في أفكاره ولا ينبهر بها. فكيف يمكن له أن يثق بأفكار الآخرين بينما هو لا يؤمن بمثقف اليقين؟
ملكة النقد
يحرص المثقف القلق على إعمال النقد بما هو ملكة للتفكير الحر، المتجرد من كل ثقة عمياء، والمتحرر من كل يقين أو “دوغما”، نسبة إلى الدوغمائية التي تدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة.
في سياقه، يعرض لنا الكاتب تصوره لمفهوم النقد بما هو مقولة حداثية تجد سندها الفلسفي في تأملات سبينوزا وعقلانيات ديكارت ونقديات كانط ونماذج هيجل المثالية. على أن النقد عنده هو ذلك الذي يحلل المفاهيم ويفكك المسلمات الكبرى ويسائل اليقينيات الاجتماعية والتوافقات ويغوص في مكوناتها وطبقاتها. إنه نقد جديد، فيما يصفه الكاتب، كما هو نقد مسلح بجرأة النفاذ إلى عمق الأفكار ونقدها، من دون الوصول حدود.
يمتلك المثقف ملكة النقد، وهي التي تحدد ماهيته، وتجعل منه مثقفا. لنقل إنه يمتلك رؤية نقدية للعالم، ولا يكفّ عن إعمال هذه الرؤية تجاه مختلف الأفكار والنصوص والطروحات. ولا يسمى المثقف مثقفا ما لم يصل المثقف إلى مرحلة النقد الذاتي، ونقد هذا النقد الذاتي نفسه، في عملية لا تنتهي، لأنه متى توقف النقد توقف العقل، وكف عن إبداع المعرفة.
وينبهنا خالد الكاتب في الفصل الرابع من الكتاب إلى أن تعريف المثقف ودوره يقتضي تعريف النقد وفهم أدواره أولا. إنه نقد يفكك المفاهيم والمسلّمات الكبرى ويسائل اليقينيات الاجتماعية والتوافقات، ويغوص في مكوناتها وطبقاتها. وهذا هو النقد الذي من شأنه أن يؤسس لمفهوم المثقف الناقد، ولمفهوم المثقف القلق أيضا. وما دام هذا المثقف الناقد هو الذي يقدم لنا النقد الحر، متحررا من أيّ منظومات أيديولوجية صلدة أو قوميات صلبة أو التزامات اجتماعية أو سياسية راسخة ومسبقة، فقد حل هذا المثقف الناقد محل المثقف العضوي، ما دام المثقف الناقد مثقفا مستقلا وعقلا حرا وحداثيا، ما دام يحتكم إلى “النقد” منهجا في التفكير والحياة.
أما المثقف القلق، فهو النموذج المتقدم للمثقف الناقد. وهو المثقف المطلوب في عالمنا العربي اليوم، كما يذهب إلى ذلك هذا الكتاب. مثقف “تفكيكي” على مذهب جاك دريدا، لا يتوقف عن نقد وتفكيك السرديات السائدة، وإفساح المجال لسرديات أخرى، ما دام مثقفا مقيما في القلق الفكري، بما هو البذرة المولدة للمثقف القلق.