إبراهيم دنقو
نسمع هديرها من بعيد، نتأهب لملاقاتها، يملانا الشوق، وكثير من الحماس، نترك أحذيتنا البالية خلفنا، حفاة نجري، العرق ينز من الجباه وينحدر علي الرقاب ليرسم عليها خطوطاً بيضاء.
نصل إلي ناصية الطريق، تسبقنا براءة الأطفال، أنفاسنا تختلط مع أصوات عابرات الصحراء العملاقة تحمل علي ظهورها الدبابات والأليات الضخمة، الدخان المنبعث من عوادمها يملأ الأفق ويرسم مع بعض الغيمات لوحة فنية غير مفهومة، منظر الدبابات يلهب الحماس في قلوبنا الصغيرة، فنتصايح ونلوح بأيدينا لذلك الجندي ذو الشنب الطويل والسحنة القاسية، وككل مرة يقف ذلك الموكب المهيب، يقفز الجندي من تلك الشاحنة ذات الإطارات العملاقة التي تشعرنا بالدهشة والاعجاب، يوزع علينا تلك المعلبات الذيذة ثم يستانف الرتل سيره إلي ماوراء الحدود في تشاد حتي يبتلعها الأفق ونرجع إلي بيوتنا بالمعلبات والكثير من القصص عن تلك الشاحنات العملاقة.
يمضي الزمن، تتوالي الفصول، يطول انتظارنا، نسترق السمع، نصاب بالخيبة، ما عادت تلك السيارات العملاقة تقتحم الأفق، ما عاد دخانها يغازل غيماتنا اليتيمة، نعود إلي ألعابنا الطفولية بين أحضان قريتنا التي تنام بجانب الطريق.
فجأة في إحدى المساءات المغموسة في الصمت ونباح الكلام، نسمع هديرا أصبح يتنامى ويتعاظم، يوقظ الزمن النائم في زقاق قريتنا، لكن ذاك الصوت جاء من الشرق، وقفنا علي قارعة الطريق رؤسنا تحمل ألف سؤال كانت الشاحنات مسرعة تحمل بعض السيارات المعطوبة، اختفت الدبابات، كانت وجوه الجنود مكفهرة، لم يقف الرتل مثل كل مرة بحثنا عن الجندي ذي الشنب الطويل والسحنة القاسية، لم يكن بينهم، خطب ما قد حصل له؟ لم يجيبنا أحد، تعلقت عيوننا الدامعة بالرتل حتي اختفي مخلفا ورائه رائحة الديزل، وقلوبنا التي أصابها شي من الأسي.