منذ فترة لم أتعرض للشعر الشعبي، ولا للتراث بتحليل يليق به، وكنت اخترت مجموعة من الشعراء ذوي الكلام المبهر الثقيل، الذي له القدرة على أن يتكرر في صور مرئية، إما في وقائع معاشة تجتر ماضيها، أو في وقائع مؤفلمة، ولم نعد ندرك حقيقة هل نحن نعيش فيلم أم أن الحياة واقع، ولقد عملت دراسة بنائية صغيرة أيضاً لتلك المجموعة التي لها القدرة على استشراف الأحوال ومآلاتها، خصوصاً ذلك الشعر المشحون بالحكمة والدلالة، الذي قاله زعماء قبائلنا العربية أيام معاناتهم وكفاحهم ضد الصلف الإمبريالي والغطرسة الإستعمارية، وهذه قصيدة للشاعر محمد بن سوف المحمودي المرموري، أحد قادة الجهاد، وأحد الأعيان والأسماء التي صنعت تاريخ ليبيا في تلك الفترة، يرثي حاله لصديقه الشيخ المجاهد أحمد بن دلة، والحقيقة أن غايتي من الإشارة للكلمات ليست أكثر من اقتناص لحظات لجماليات المكان واللسان معاً، بقيت عالقة داخل صدفتها الثقيلة، منذ أكثر من قرن من الزمان، تستفزنا على هدهدتها برفق دون خدشها أو خلخلتها وهي نائمة، إنها كنز لكلمات فيها صور تتكرر، كما أشرت لها، سأعيدها هنا على أن ألتزم بتحليلها في فرصة سانحة أخرى مع ملاحظة بعض التعديلات التي وقعت في الكتابة، خصوصاً وأن الشعر الشعبي الليبي بالذات، يحتاج إلى قارئ يعيد كتابته أيضاً برسم صحيح Calligrafia، وفن لخط، يتوافق واللهجة االليبية البدوية السليمة، فعلى سبيل المثال، كلمة شعبية من مثل: “فيه اللي” مثلاً، تعني يوجد من، وأحياناً تنطق في البادية بـ “فيه الذي” شرط عدم فتح اللام وشدها بل كسرها وشدها، وهكذا فتجد أيضاً، أن للشاعر قاموس من الكلمات يدلل على أبهة عقله وغنى معجمه بالكلمات والأماكن من صحراء ليبيا إلى أبعد نقاط العالم:
كيف كيف حال الوقت يا بن دله* …… نرقد صحيح، نصبح مريض بعلّه
***
نرقد صحيح وطـارب . .. نمرض بلا علة انولي خارب
فيه الذي يعطيك قول الشارب …. وين تتبعة تلقاه فيسع** ولّى
وفيه الذي يطرد يولي هـــارب …. عليه يحكم الباري يجوز محلّه
وفيه الذي يرجع شجيع وضارب … ما بين ظهر وعصر صيته علّى
وفيه شقفة الحوات ترجع قارب … اتخش بحر بورمادة غريق أُكّلّه
***
فيه شقف حوت البوري … يرجع سفينة يدخل المرموري
وعمّل مدافع دالمنك وكوري …. يدخل مزاز البحر يستعملّه
عساكر ادير الشغل بالناعوري … استعمال فرقاطة اقران محلّه
وين تشبح الزخري اتجيه احدوري …. عليه تلعجه يغدي*** حطب شرتلّه
معاد ينفع كان قول الغوري …. ومعاد يحكم كان خارج ملّه
***
كيـــــــــــــــــف احــــــــــــواله ….. يا شين وقتة ما عرفت افصاله
ان كانك نصرت الدين ما تلقاله …. اسلام شاهية حرب العدو تنزلّه
وكانك تركتة ينشبوه عكــــــالة … لـ “حب الرياسة” موش لــ “وجه الله”..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قالها مخاطباً الشاعر المجاهد احمد بن دلة .في سنة 1916 م ايام الغزو الايطالي ليبيا
** فيسع ولّى يعني عاد بسرعة..
*** يغدي يعني يصبح، حطب شرتله يعني حطب متباعد يصعب لمه لإيقاد النار أو ما في نحوها.. يعني حطب مشتت لا خير فيه