محمد نجيب عبدالكافي
مؤسسات وظفتني
تركت التعليم بتقديم استقالتي لأسباب لم أفه بها لأحد، ولا أبوح بها الآن، رغم أن مسؤولي التعليم بالوزارة، أو هي النظارة يومئذ، قد فهموا الدّاعي وتصميمي فقدّروا موقفي وعبّروا عن ذلك بشتّى الوجوه. قدّمت استقالتي في آخر الموسم فكانت أمامي العطلة الصيفية أغتنمها في البحث عن عمل خارج ليبيا، والاستقرار ببلد آخر في أوربا ولو كان ذلك بشرقها. شرعت في إعداد العدّة للسفر، عندما دعاني محمد المرابط نائب مدير وكالة التنمية والاستقرار، فلبّيت، وإذا به يعرض عليّ عملا بالوكالة ذاتها، ويقدّمني لمديرها الإنغليزي “سار آرتر دين” الذي، بعد دقائق معدودات من الحديث الاستفساري، كلّف كاتبته بتحديد موعد أقابل فيه المستر آبوت – الرجل الأول بعد المدير ونائبه – ليمتحنني كي أكون مساعده. تمّ اللقاء والاختبار بالفوز، وها أنا مرّة أخرى أنهج سبيلا أرادته الأقدار، لا السبيل الذي نويت السّير فيه.
– وكالة التنمية والاستقرار:
هي ابنة أو ربيبة منظمة الأمم المتحدة، كُوِّنت من خمس دول هي بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا ومصر والباكستان، لمساعدة ليبيا المحتاجة العون أيامَها، والإسراع بتنفيذ بعض المشاريع الضرورية للنهوض والنّمو. أضيف لنشاطها بعد ذلك – ونشاطي بالتبعية – استقبال والإشراف على توزيع مساعدات بعض المنظمات الدُّوَلية من حبوب وألبان وغيرها، حسب ما ترسمه وزارة الداخلية وبالاشتراك معها. كان عملا مضافا ومضنيا، لكنه أتاح لي زيارة أماكن لم أكن لأطأها لولاه. مرّت الأيام وأصبحت ليبيا في غنىً عن المساعدات الخارجية، فأنشئت وزارة خاصة للتخطيط والتنمية، ضُمَّ إليها الكثيرون من العاملين في هيئات لم يبق لها دور مثل النقطة الرابعة، ومجلس الإعمار، ووكالة التنمية والاستقرار طبعا. هكذا وجدت نفسي، بلا مشورة أو إرادة، أحد موظفي وزارة التخطيط، التي كانت وأعتبرها مرحلة هامة من سنوات إقامتي بليبيا.
– وزارة التخطيط والتنمية:
لكلّ بداية تردّد وذبذبة، وأول السير خطوة، وأصعب الأمور مباديها. تكوّنت بعض مصالح الوزارة تلقائيا، كالمالية والمصلحة الفنية إذ حاجتهما البشرية متوفرة بما كان في الهيئات المنحلة من محاسبين ومهندسين وتقنيين وهلمّ جرّا, لكن التخطيط والتنمية الشاملين يحتاجان إلى دراسات، وإحصائيات، وتصميمات ومقترحات وبرامج يضعها أخصائيون في مختلف جوانب حياة الشعوب والبلدان. فلا بد للوزارة إذن من إدارة أو مصلحة اجتماعية اقتصادية ثقافية، تقوم بما سبق ذكره وأكثر. لابد لي هنا من وقفة أعرّج فيها على الناحية البشرية الإنسانية البحتة، التي كثيرا ما تُهْمل وهي في كلّ الأمور الأساس. التحاقي بوزارة التخطيط كان منعرجا في حياتي، أتاح لي دخول ميادين، وتعلم أشياء، لم أكن أعرفها ولا هي ضمن استعداداتي. ثمّ أني تعرّفت على، وعاشرت نخبة لم أكن لأتصل بها لولا الوزارة. أولا عبد الله سكتة، وكيل الوزارة، الذي سمعت عنه في درنة وعلمت أنه تولى سكرتيرية فرع جمعية عمر المختار بدرنة سنة 1947- 48، فعرفت الوطنية المتواضعة والنشاط وحبّ الخير للجميع. ثم سعدت بالتعرف على عيسى رمضان القبلاوي الذي، بعد طول أحاديث وتبادل آراء، طلب منّي وضع تصميم هيكلة لإدارة أو مصلحة تجسّم ما تبادلناه من أفكار، فأخذت معي مصباح جلبان، أحد الخريجين الذين أثروا الوزارة فصاروا من أعمدتها الأساسية، فصاحبني إلى مقرّ سكناي وهناك انكببنا يوما وبعض ليلة حتى كان هيكل إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التي تولّى إدارتها عيسى بجدية وتفان، بعد تسلّمه الرّسم والموافقة عليه. زُوِّدت الوزارة إبّانها بعدد من حديثي التخرج في مختلف التخصصات، فاكتملت المؤسسة تكوينها وجرى في عروقها دم الشباب الطموح، صادقني وصادقت معظمهم مثل أبو بكر بوشحمة، مصطفى الهوني، محمود بن كورة، لؤي أدهم، عوض بن موسى، ثمّ جاء عبد الكريم بللّو فترأس لجنة متابعة المشاريع، وجاء عيسى بالخير ليرأس مكتب التعاون الفني. تغيّر في الأثناء وكيل الوزارة فجاء الدكتور علي عتيقة، فأعطى بنشاطه وطموحه دفعا للوزارة وأنشطتها. أليست هذه فرصة وتجربة نادرتين في حياة إنسان؟ هي كذلك في ليبيا التي عرفت.
في الذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.