كانت فرصة جميلة أن أزور رام الله ضمن ظرف طارئ قادما من بلدتي جيوس في شمال الضفة المحتلة وألتقي الفنانة الشابة جهاد إسماعيل والمعروفة فرح إسماعيل، فقد تابعت نتاجها الفني عبر فترة زمنية حتى تملكتني الرغبة أن أشاهد أعمالها الفنية في محترفها الفني الخاص بها أو في معرض شخصي، فهذه الفنانة الواعدة والتي درست الفن في جامعة القدس وتابعت عبر دورات متخصصة أيضا، تمتلك طموحا متميزا ومثابرة غير طبيعية، بحيث لم تترك دورة يمكن أن تضيف لإبداعها وروحها دون أن تلتحق بها وتتفوق أيضا.
من رام الله إلى بيتونيا اتجهت برفقة الفنانة لزيارة محترفها الصغير، وهذه البلدة لها مكانة خاصة ومتميزة في روحي، فقد درست بها ثلاثة سنوات من دراستي الابتدائية فيها وتركت هذه البلدة والمدرسة وبعض المدرسين العظام الكثير على روحي وخاصة في الكتابة وعشق الجمال والمكان، وكم شعرت أن روحي تحلق حين مررنا بالحافلة من جوار الحي الذي كنا نسكنه قبل عهد الكهرباء، فما أن أنهيت زيارتي للمحترف واحتسيت القهوة مع الفنانة وأهلها الرائعين حتى كنت أستأذنهم وذهبت وتجولت في الحي أستعيد ذكريات طفولتي قبل أن أغادر.
من خلال لوحات فرح وجدت أنها تميل للطبيعة كثيرا، فهي مهتمة برسم الورود والطبيعة في غالبية لوحاتها التي كانت موجودة في محترفها، فنجدها تتنقل بين المدرسة التقليدية “الكلاسيكية” حينا وبين المدرسة الانطباعية حينا آخر، كما نجدها توغل بالرمزية في لوحات أخرى فتكون أقرب للمدرسة السيريالية المتمازجة مع التجريدية، ولكنها أيضا لا تغفل المكان في لوحاتها فنجد أن القدس والبيوتات التراثية تأخذ حيزا من تحليق روحها، فما لمسته في مشاهدتي للوحات المتبقية عندها وما سبق أن شاهدته عبر صفحتها سابقا أنها فنانة تمتلك روحا متمردة وريشة متمردة، فالفن عندها بعض من ثورة روحها والتعبير عن اللحظة من خلال اللون والريشة، فلغة الألوان هي التي تعبر من خلالها عن مكنوناتها النفسية وثورة روحها.
من ضمن أعمالها المتعددة اخترت ثلاثة نماذج وجدت أنها تعبر عن تحليقها الفني وروحها من ضمن اللوحات الموجودة والتي شاهدتها عيانا، أما صور اللوحات فلم أهتم بها إلا من زاوية أنها باحت لي ببعض من إبداعات الفنانة، لكن التعامل مع الصورة يبقى قاصرا دوما فالصورة لا تكشف حقيقة اللوحة من حيث دقة الخطوط واللون الأصلي وأية نقاط ضعف أو قوة كما البخل بالألوان أو الكرم الزائد به وتبقى الصورة تعبير جمالي عام، لذا اعتدت أن أحلق باللوحات الأصلية فالمشاهدة عيانا تترك للمشاهد فرصة للعين والذائقة البصرية أن تجول بدقة في كل زوايا اللوحة وأسرارها.
لوحة للطبيعة كانت مميزة عن اللوحات الأخرى وحين نتحدث عن موضوع اللوحة وجانبها الوصفي العام سنراها رسمت البحر وقاربين في مقدمة اللوحة، تلاه مقطع صخري بلسان ترابي مبني عليه ثلاثة بيوت بسيطة، ثم ثلاثة مقاطع صخرية كأنه جزر جبلية بامتداد عرضي في عرض البحر قبل أن نصل للأفق المشتعل بالألوان، والملاحظ بهذه اللوحة التتابعية بالمقاطع، فقد مثّل كل مقطع منفردا لوحة. ومجمل المقاطع مثلت اللوحة الإجمالية وأعطت المشهد العام والفكرة، وقد استخدمت الفنانة ألوان “اكليرك” وهو الزيت الصناعي على قاعدة من القماش “الكانفاس” مستخدمة أكثر من طريقة في الرسم وليس الريشة وحدها، وحين نسير مع مقاطع اللوحة نجد أننا وكأننا نسير إلى مسافة تليها مسافة حتى الوصول للأفق، وهناك يعيدنا أسلوب رسم الأفق كموجة منعكسة إلى البدايات من خلال نظرة من أعلى فنذهب سائرين وسابحين ونعود محلقين، وقد تمكنت الفنانة بمهارة من أن تجعل فضاء اللوحة بدون أي قطع مزعج، واستطاعت أن تعطيه حقه رغم ثورة الألوان المستخدمة.
حين نقرأ اللوحة بذائقة بصرية ونقدية سنجد أن البنية العامة للوحة وتكوينها العام كانت متناسبة بالمسافات والمساقط ومساقط النور إلا في مشهد البيتين الأوّلين على الجزيرة الرملية، حيث أن الواجهة اليمنى كان عليها مسقط الضوء رغم أن الضوء وانعكاسه كان من عمق وأفق يسار اللوحة وليس يمينها، ونستطيع بوضوح أن نشعر أن نفسية الفنانة كانت مرتاحة أثناء رسم اللوحة مع بعض من الثورة الداخلية التي تعكسها الألوان المستخدمة، فنحن نلاحظ تمازج وتدرج باللون بشكل انسيابي متناسبا مع أشعة الشمس القادمة من يسار الأفق بدون أن تظهر الشمس، ففي مقدمة اللوحة كان اللون أكثر عتمة ويزداد تفتحا كلما سرنا نحو الأفق وأعطى اللون الأبيض للأمواج وهي تضرب الصخور رمزية واضحة بأن المثابرة مع الفرح هو ما سيحقق الأمل والحلم، حتى نصل إلى الأفق فنجد ثورة وحشية بالألوان ما بين الأحمر في يمين ووسط اللوحة متمازجا مع الأصفر الذي يضفي فرحا على يسارها، ويحيل أطراف المساحة الحمراء إلى لون برتقالي جميل، بينما الأزرق الداكن المعتم في أفق اللوحة، لكن ما يخفف من وطأته على النفس وجود الغيوم البيضاء التي تعمل على إزالة العتمة.
اللوحة الثانية والتي سأختصر الحديث عنها كانت مجموعة من الورود داخل وعاء زجاجي، ورغم الفرح في لون الورود من خلال استخدام اللون الأزرق الفاتح الجميل الموشح بالأبيض مما يجعله قريبا من النفس، إلا أن استخدام اللون الأسود للأوراق بشكل ضربات من اليد وليس الريشة يعطي انطباعا أن اللوحة تم رسمها في لحظة غضب وثورة نفسية، وهذا ما يمكننا لمسه أيضا من خلال أفق اللوحة حيث قسّم اللوحة إلى فضاء معتم لا يخفف من عتمته إلا شفافية الزجاج، والقسم الأسفل الذي مازج اللون الأبيض مع بعض العتمة وتوشيحات خفيفة من ألوان أخرى، لكن الفنانة استغلت فضاء اللوحة بشكل جيد وكذلك مساقط الضوء وانعكاساته تركت مساحات للفرح رغم الغضب.
اللوحة الثالثة هي لوحة رمزية تعبيرية استخدمت فيها منضدة مرتفعة وعالية يجلس على حافتها شخص، بينما شخص آخر طويل القامة يقف تحتها وهي مرتفعة عنه كثيرا، وكأن الفنانة تطرح سؤالا من خلال هذا الرمز: أن التعالي على الآخرين شعور يمنع الإنسان من النزول مجددا إلا قفزا، وفي هذه الحالة يمكن أن يتحطم وأن ينكسر ما بين العلو وجدران المجتمع، بينما نرى الشخص الواقف على قدميه يسير باتجاه النور لتحقيق الحلم بمشية واثق، ومن يجلس بالأعلى تحيطه العتمة وظهره إلى النور وشعاع الشمس.
لوحات عديدة تستحق القراءة في لوحات فرح، لكني اكتفيت بالحديث عن هذه اللوحات الثلاثة التي تمثل العطاء لدى الفنانة الشابة الواعدة، وهي الآن تستعد لمعرضها الشخصي الأول بعد أن شاركت بالعديد من المعارض في جامعة القدس وجمعية الياسمين، وآمل أن يكون معرضها القادم يمثل بصمة خاصة بها، فما رأيته في لوحاتها وتنوعها يعطيني فكرة أننا أمام فنانة شابة تمتلك الطموح والإبداع، وإن اهتمت بنفسها أكثر سيكون لها اسما جميلا في فضاء الفن التشكيلي الفلسطيني.
“رام الله 9/4/2019”